Saturday, June 22, 2013

المنتهى فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( الصلاة على وقتها ))

المنتهى
فى
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(( الصلاة على وقتها ))


بقلم الفقير إلى رحمة الله الخبير
أبو الفضل عبد العزيز مريدين مصدوقى

طالب بكلية الشريعة الإسلامية جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة
الفرقة الثانية العام الدراسي 2012-2013





مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على الوصول إلى العلم المقبول فهيأ علم الشريعة المنقول والمستنبط من حفظ الكتاب العزيز وسنة الرسول والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين.

وبعد. فقال المولى تبارك وتعالى (( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ))[1] وقال أيضا (( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ))[2] عرفنا من هاتين الأيتين أن الصلاة التى فرضها الله علينا لها وقت معين لا يجوز للمكلف أن يفعلها فى غير وقتها بغير عذر شرعي. ولكن هاتين الأيتين لابد من مبيِّن يبين حدود هذا الوقت وهذا المبين هو الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ))[3] والبيان الذى صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم إما بيان بالقول أو بالفعل أو غيرهما من أنواع البيان كما تقرر فى كتب الأصوليين. والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين حدود أوقات الصلاة وضوابطها بقوله وفعله كما تقرر فى كتب السنن.

وبعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أوقات الصلاة المكتوبة بقي الخلاف بين العلماء فى أفضلية الوقت بعضه على بعض, فقال قوم إن أول الوقت أولى وأفضل وقال قوم بعدم الأولوية والأفضلية فكل جزء من أجزاء الوقت المحدد سواء ولا فرق. وهذا هو محل النزاع بين العلماء, ونتناول - إن شاء الله - فى هذا البحث مذاهب العلماء فيما يتعلق بهذا الموضوع.

وهذا مع علمي وإقراري بأني لست أهلا لمثل هذا العمل - البحث – الشاق إلا " أن ما لا يدرك كله لا يترك كله " وبناء على هذا أقول : إن وجد القارئ الكريم الخطأ والسهو فى علمي فكل بني آدم خطاء فمن وجد شيئا من ذلك فلا يبخل عليَّ كي أستفيد من نصيحته ورحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي لكن بالتى هي أحسن للتي هي أقوم. فاللهَ أسأل أن يوفقنا فى جميع أحوالنا وأمورنا. آمين
ونتناول فى هذا البحث - بمشيئة الله – على المبحثين :
1.    متون الحديث.
2.     ما يستنبط من الحديث.

المبحث الأول : متون الحديث

قال أمير المؤمنين فى الحديث الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري رحمه الله تعالى آمين :
1.    حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال : حدثنا شعبة قال : الوليد بن العَيْزَارِ أخبرني قال: سمعتُ أبا عمرو الشيباني يقول : حدثنا صاحب هذه الدار وأشار إلى دار عبد الله قال : سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : (( الصلاة على وقتها )) ثم قال : ثم أي ؟ قال : (( ثم بر الوالدين )) قال ثم أي ؟ قال : (( الجهاد فى سبيل الله قال )) ؛حدثني بهن ولو استزدته لزادني.[4]
2.    حدثنا الحسن بن صباح حدثنا محمد بن سابق حدثنا مالك بن مغول قال : سمعت الوليد بن العيزار ذكر عن أبي عمرو الشيباني قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال : (( الصلاة على ميقاتها )) قلت ثم أي ؟ قال : (( ثم بر الوالدين )) قلت ثم أي ؟ قال : (( الجهاد فى سبيل الله )) فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولواستزدته لزادني.[5]
3.    حدثني سليمان شعبة عن الوليد ح وحدثني عباد بن يعقوب الأسدي أخبرنا العباد ابن العوام عن الشيباني عن الوليد العيزار عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : (( الصلاة لوقتها وبر الوالدين ثم الجهاد فى سبيل الله )).[6]
4.    حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة قال الوليد بن عيزار قال : سمعت أبا عمرو الشيباني يقول : أخبرنا صاحب هذه الدار وأومأ بيده إلى دار عبد الله قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : (( الصلاة على وقتها )) قال : ثم أي ؟ قال : (( بر الوالدين )) قال : ثم أي ؟ قال : (( الجهاد فى سبيل الله )) قال : حدثني بهن ولو استزدته لزادني.[7]

عرفنا من الأحاديث السابقة أن سياق الحديث يختلف, فنرى فى الحديث الأول والأخير أن السائل سأل عن أحب الأعمال إلى الله وفى الحديث الثاني والثالث سأل السائل عن أفضل الأعمال ولم يختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم فى تلك الأحاديث.

نقف قليلا عند الحديث الثالث فى قول الراوى " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم " من الرجل الذى سأل النبي صلى الله عليه وسلم ..؟ قال ابن حجر فى الفتح : وعرف منه تسمية المبهم فى هذه الرواية حيث قال فيها : إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ..؟ فيحتمل أن يكون الراوى حدّث به بالمعنى فأبهم السائل ذهولا عن أنه الراوى كما حذف من صورة السؤال الترتيب من قوله قلتُ : ثم أي ..؟ ويحتمل أن يكون ابن مسعود حدّث به على الوجهين, والأول أقرب. وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أحمد بن إبراهيم الموصيلي عن عبّاد بن العوام فقال فى روايته عن أبى إسحاق يعنى الشيباني وقال فيه : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أو قال سألت النبي عن الأعمال, أيها أفضل ..؟ فهذا مما يؤيد الإحتمال الأول. وان الراوى لم يضبط اللفظ. وشعبة أتقن من الشيباني وأضبط لألفاظ الحديث. فروايته هي المعتمدة. والله أعلم. اهـ [8]

 المبحث الثاني : ما يستنبط من الحديث

اختلف العلماء فى أولوية أوقات الصلاة وعدم أولويتها وفى سائر الواجبات إذا كانت موسعة ويمكن إجمال أقوالهم فى المذاهب الثلاثة التالية :

المذهب الأول : يرى أن الوجوب يختص بأول الوقت فإن فعله المكلف فى أخره كان قضاء. وهذا المذهب حكاه الإمام البيضاوي - رحمه الله – فى كتابه المنهاج بقوله : ومنا من قال يختص بالأول وفى الأخير قضاء.[9] قال الإمام عبد الرحيم بن حسن الإسنوي - رحمه الله – والمراد بقوله " ومنا " أي ومن الشافعية, ثم قال : وهذا القول لا يعرف فى مذهبنا ولعله التبس عليه توجيه الاصطخري حيث ذهب إلى أن وقت العصر والعشاء والصبح يخرج بخروج وقت الإختيار.[10] قال الشيخ محمد بخيت المطيعي - رحمه الله – فى سلم الوصول : وقال فى النجم اللامع وهذا ما حكاه أبو الحسين فى المعتمد وصاحب المصادر عن بعض الشافعية وكذا الإمام فى المعالم والبيضاوي فى المنهاج وأنكر ابن الرفعة هذا القول وقال : لم أجده فى الكتب المشهورة وقائلوه تمسكوا بأمور لا تسلم عن اعتراض معترض وأحسنها ما أخذ من قول إمامنا الشافي فى الحج أن قوما من أهل الكلام وغيرهم ممن يقولون أن وجوب الحج على الفور يقولون أن وجوب الصلاة يختص بأول الوقت حتى لو أخره عن أول الإمكان عصى بالتأخير وهذا من إمامنا جرى على سبيل النقل لا على سبيل الموافقة.

أدلة هذا المذهب :
حديث  " الصلاة فى أول الوقت رضوان الله وفى آخره عفو الله " رواه  الترمذي قالوا : ولا يوجد هنا مقتض للعو إلا العصيان بخروج الصلاة عن وقتها فدل ذلك على أن وقت أدائها هو الأول فإن أخرها عنه كان عاصيا باالتأخير.[11]
وروى الدار قطني بلفظ " أول الوقت رضوان الله ووسط الوقت رحمة الله وآخر الوقت عفو الله "[12]
رُوِي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه لما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم " أول القت رضوان الله وآخره عفو الله " قال : رضوان الله أحب إلينا من عفوه فإن رضوانه للمحسنين وعفوه للمقصرين.
وفى مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا, فقد قال فى المسافرين يقدمون الرجل لسنه يصلى بهم فيسفر بصلاة الصبح قال : يصلى الرجل وحده فى أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار فى جماعة.[13]
اتفق أصحاب شعبة على اللفظ المذكور فى الباب وهو قوله " عن وقتها " وخالفهم علي ابن حفص وهو شيخ صدوق من رجال مسلم  فقال : " الصلاة فى أول وقتها " أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي من طريقه. وراو الحسن ابن علي المعمري فى " اليوم والليلة " عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غَنْدَرٍ عن شعبة كذلك.[14]

الجواب على هذا المذهب :
كان القاضى أبو بكر الباقلاني نقل الإجماع على نفي الإثم ولنقله قال بعضهم أنه قضاء يسد مسد الأداء أي فلا إثم بالتأخير عن أول الوقت وسوق الحديث يدل على هذا فإن سوقه يقتضى أن الفعل على كلا الحالين واقع فى الوقت غير أنه تارة يكون فى أوله فيكون رضوان الله وتارة يكون فى آخره فيكون عفو الله وهذا يقتضى أن الصلاة فى أول الوقت أكثر ثوابا وأفضل من الصلاة فى أخره فليس المراد بالعفو  العفو الذى هو مقتضى العصيان بخروج الصلاة عن وقتها, لأن الحديث صريح أنها واقعة فى وقتها إما فى أوله وإما فى آخره فلا وجه للقول بأنه إن أخر فقضاء بالمعنى المصطلح.[15]

قال الإمام الشاطبي : وأما حديث أبي بكر رضي الله عنه فلم يصح, وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي, وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار, وإن سلم فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر.
وأما مسائل مالك فلعل استحبابه لتقديم الصلاة وترك الجماعة, مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة, وكان الإمام قد أخر إليه.[16]

أما الحديث " الصلاة فى أول وقتها " فقال الدارقطني : ما أحسبه حفظه ( علي ابن حفص ) لأنه كبرٌ وتغير حفظه, وأما رواية الحسن ابن علي المعمري فقال عنه الدار قطني أيضا : تفرد به المعمري فقد راوه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ " على وقتها " ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن أبي موسى كراوية الجماعة, وهكذا رواه أصحاب غندر عنه, والظاهر أن المعمري وهم فيه لأنه كان يحدث من حفظه, وقد أطلق النووي فى شرح المهذب أن رواية " فى أول وقتها " ضعيفة.[17]

المذهب الثاني : يرى أفضلية أول الوقت وهذا مذهب الإمام ابن بطال وابن رجب الحنبلي - رحمهما الله تعالى – قال ابن بطال فيه أن البدار إلى الصلاة فى أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. قال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني بعد أن حكى كلام ابن بطال : قلت وفى أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر. قال ابن رجب الحنبلي : وقى قول النبي صلى الله عليه وسلم " الصلاة على وقتها " أو " الصلاة على مواقيتها " دليل على فضل أول الوقت للصلاة.

قال العلامة أحمد بن رسلان الشافعي - رحمه الله تعالى - :
يندب تعجيل الصلاة فى الأُوَل      إذ أول الوقت بالأسباب اشتغل
وسن الإبراد بفعل الظهر      لشدة الحَر بقطر الحر[18]

قال الإمام السيوطي فى الأشباه والنظائر :
قاعدة : كل عبادة مؤقتة فالأفضل تعجيلها أول الوقت إلا فى صور, إلى قوله رحمه الله :
أول الوقت فى العبادة أَولى      ما عدا سبعةً أنا المستقري
فِطْرةٌ والضحى وعيدٌ وظهرٌ      والطوافُ الحِلاقُ رميُ النحرِ[19]
نرى من كلام ابن رسلان والسيوطي أنهما موافقان هذا المذهب إلا أنهما استثنا بعض الأوقات, ولعل هذا مستنبط من حديث جابر بن عبد الله كما سيأتى.

موقف الإمام أبي إسحاق الشاطبي :
فإني أرى فيما فهمتُ من مقتضى كلامه أنه رحمه الله أيد هذا المذهب لنرى كلامه :
وأما المقيدة بوقت العمر فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة فى أول أزمنة الإمكان فإن العاقبة مغيبة, فإذا عاش المكلف ما فى مثله يؤدي ذلك المطلوب فلم يفعل مع سقوط الأعذار عُد - ولا بد – مفرطا, وأثمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره فإن آخره غير معلوم وإنما المعلوم منه ما فى اليد الآن, فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور فلا تعود عليه بنقض.

وأيضا فلا ينكر إستحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين, لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا, وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة, وهذا كما فى الواجب المخير فى خصال الكفارة, فإن للمكلف الإختيار فى الأشياء المخير فيها وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض, كما يقول فى ذلك فى الإطعام فى كفارة رمضان مع وجود التخييرفى الحديث وقول مالك به, وكذا العتق فى كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما هو مخير فى أي الرقاب شاء مع أن الأفضل أعلاها ثمنا, وأنفسها عند أهلها ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه, ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ولا مفرطا. وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام فى كفارة اليمين وما أشبه ذلك من المطْلقات التى ليس للشارع قصد فى تعيين بعض أفراده مع حصول الفضل فى أعلى منها.[20]

واستدل بعضهم بحديث (( الصلاة فى أول الوقت رضوان الله وفى آخره عفو الله )) وهذا يقتضى أن الصلاة فى أول الوقت أكثر ثوابا وأفضل من الصلاة فى آخره, فليس المرهد بالعفو العفو الذى هو مقتضى العصيانبخروج الصلاة عن وقتها.[21]

المذهب الثالث : يرى عدم أولوية الوقت, وهذا رأي كثير من الأصوليين وهو إختيار الإمام وأتباعه وابن الحاجب, لنرى نصوص هؤلاء فى كتبهم :

قال القاضى البيضاوي : أو يزيد عليه, فيقتضى إيقاع الفعل فى أي جزء من أجزائه لعدم أولوية البعض. قال الإمام الإسنوي فى النهاية شارحا كلام البيضاوي : أن الأمر بذلك يقتضى إيقاع الفعل فى أي جزء من أجزاء الوقت بلا بدل سواء كان أولا أو آخرا لأن قوله صلى الله عليه وسلم (( الوقت ما بين هذين )) متناول لجميع أجزائه وليس تعيين بعض الأجزاء للوجوب بأولى من تعيين البعض الآخر, وهذا هو معنى قول الأصحاب إن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا.
مواقف العلماء فى حديث (( الصلاة على وقتها )) :

قال الإمام ابن دقيق العيد - رحمه الله تعالى - : وقد اختلفت الأحاديث فى فضائل الأعمال وتقديم بعضها على بعض. والذى قيل فى هذا ( أي فى حديث الصلاة على وقتها ) إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص أو من هو فى مثل حاله أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التى ترشد القرائن إلى أنها المراد. ومثال ذلك أن يُحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله (( ألا أخبركم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعِها فى درجاتكم ؟ )) وفسره بذكر الله تعالى على أن يكون ذلك أفضلَ الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك أو من هو فى مثل حالهم أو من هو فى صفاتهم. ولو خوطب بذلك الشجاع الباسلُ المتأهل للنفِع الأكبرِ فى القتال لقيل له " الجهاد " ولو خوطب به من لا يقوم مقامه فى القتال ولا يتمحض حالُه لصلاحية التَبَتلِ لذكر الله تعالى وكان غنيا ينتفع بصقة ماله لقيا له " الصدقة " وهكذا فى بقية أحوال الناس. فقد يكون الأفضل فى حق هذا مخالفا للأفضل فى حق ذلك بحسب ترجيح المصلحة التى تليق به.[22]

قال شيخ الإسلام ابن حجر فى الفتح : ومحصل مل أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم مما يحتاجون إليه أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو لائق بهم أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل فى ذلك الوقت أفضل منه فى غيره.[23]

ومما يؤيد هذا القول قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإمام البخاري فى صحيحه قال :
حدثنا أيوبُ بنُ سليمان قال : حدثنا أبو بكر عن سليمان قال : صالح بنُ كَيسانَ حدثنا الأعرجُ عبدُ الرحمن وغيره عن أبي هريرة ونافعٌ مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أنهما حدثاه عن رسول الله صلى الله علي وسم أنه قال : (( إذا اشتد الحَر فأَبْرِدوا عن الصلاة فإن شدة الحَر من فيح جهنم )).[24]

قال شيخ الإسلام ابن حجر فى الفتح : والأمر بالإبراد أمر استحباب وقيل أمر إرشاد وقيل بل هو للوجوب حكاه عياض وغيره. وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب. نعم, قال جمهور أهل العلم يستحب تخير الظهر فى شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج, وخصه بعضهم بالجماعة فأما المنفرد فالتعجيل فى حقه أفضل, وهذا قول أكثر المالكية والشافعي أيضا لكن خصه بالبلد الحار وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد. إلى قوله ( ابن حجر ) : فليس فى سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعي وغايته أنه استنبط من النص العام وهو الأمر بالإبراد معنى يخصصه وذلك جائز على الأصح فى الأصول لكنه مبني على أن العلة فى ذلك تأذيهم بالحر فى طريقهم, وللمتمسك بعمومه أن يقول : العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء فى جباههم حالة السجود, ويؤيده حديث أنس (( كنل إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر )) رواه أبو عوانة فى صحيحه بهذا اللفظ وأصله فى مسلم, وفى حديث أنس أيضا فى الصحيحين نحوه. والجواب عن ذلك أن العلة الأولى أظهر, فإن الإبراد لا يزيل الحر عن الأرض.

وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر الإضل مطلقا, وقالوا : معنى أبردوا صلوا فى أول الوقت اَخْذا مكن برد النهار وهو أوله. وهو تأويل بعيد. ويرُده قوله (( فإن شدة الحر من فيح جهنم )) إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير.[25]
 
روى الإمام البخاري فى باب مواقيت الصلاة وفضلها. قال :
حدثنا عبد الله بن مَسْلمةَ قال : قراتُ على مالك عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالعِرَق فدخل عليه أبو مسعودٍ الأنصاري فقال : ما هذا يا مغيرة ؟ أليس قد علمتَ أن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : بهذا أُمِرتُ. فقال عمر لعروة : اعلمْ ما تُحدثُ أو أن جبريل هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة. فقال عروة : كذلك كان بَشِيْرُ بنُ أبي مسعودٍ يُحَدثُ عن أبيه.[26]

قال الإمام القرطبي - رحمه الله - : قول عروة إن جبريل نزل ليس فيه حجة واضحة على عمر ابن عبد العزيز إذ لم يتعين له الأوقات. قال : وغاية ما يتوهم عليه أنه نبهه وذكره - بتشديد الكاف – بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات. قال : وفيه بُعدٌ, لإنكار عمر على عروة حيث قال له " اعلمْ ما تحدث يا عروة ". قال : وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل. قال الحافظ ابن حجر : قلت : لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المستمر, لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبريل بالفعل, فلهذا استثبت فيه وكأنه كان يرى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد.[27]

اعترض ابن بطال على استدلال هذا المذهب بحديث (( الوقت ما بين هذين )) فقال ابن بطال - رحمه الله – فى هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد فى أن جبريل أَم بالنبي صلى الله عليه وسلمفى يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة لأنه لو كان صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته فى آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل مع أن جبريل قد صلى فى اليوم الثاني فى آخر الوقت وقال (( الوقت ما بين هذين )). وأُجيب باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت عن وقت الإختيار وهو مصير ظل الشيئ مثليه لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمش فيتجه إنكار عروة ولا يلزم منه ضعف الحديث, أو يكون عروة أنكر مخالفة ما وظب عليه النبي صلى اله عليه وسلم وهو الصلاة فى أول الوقت, ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا.

مادام العلماء اختلفوا فى أفضلية الوقت وعدم أولويته فإني أرى من المستحسن أن نتأمل فى البيان الفعلي. فهذا ما رواه الإمام البخاري فى صحيحه فقال :
حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي قال: (( قدِم الحجاج فسألنا جابر ابن عبد الله فقال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصرَ والشمس نَقِيةٌ والمغرب إذا وجبت والعشاءَ أحيانا, وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبْطئوا أخر والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلسٍ )).[28]

هذا الحديث يدل على أفضلية الوقت الذى صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن التعبير بلفظ " كان " معلوم بأنه يدل على الكثرة والمداومة. وما ورد على خلاف ذلك من الأحاديث فإن ظهرت له علة فى المخالفة فقد يحمل على تلك العلة وأن ما صح فى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غير كراهة. وهذا الحديث أيضا بيان فعلي تفصيلي بين الصلوات المكتوبة.   
فأما الظهر فقوله (( يصلى الظهر بالهاجرة )) يدل على تقديمها فى أول الوقت, فإنه قد قيل فى الهاجرة والهجير إنهما شدة الحر وقوتُه, ويعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (( إذا اشتد الحر فأبردوا )) ويمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم الهاجرة على الوقت الذى بعد الزوال مطلقا. فإنه قد تكون فيه الهاجرة فى وقت فيطلق على الوقت مطلقا بطريق الملازمة, وإن لم يكن وقت الصلاة فى حر شديد, وفيه بُعدٌ. وقد يقرب بما نقل عن صاحب العين أن الهجير والهاجرة نصف النهار. فإذا أخذنا بظاهر هذا الكلام كان مطلقا على الوقت.

وفيه وجه آخر وهو أن الفقهاء اختلفوا فى أن الإبراد رخصة أو سنة, ولأصحاب الشافعي وجهان فى ذلك. فإن قلنا أنه رخصة فيكون قوله صلى الله عليه وسلم (( أبردوا )) أمر إباحة. ويكون تعجيله لها فى الهاجرة أخذا بالأشق والأَولى. أو يقول من يرى أن الإبراد سنة إن التهجير لبيان الجواز, وفى هذا بُعد. لأن قوله (( كان )) يشعر بالكثرة والملازمة عرفا.

وقوله (( والعصرَ والشمس نقية )) يدل على تعجيلها أيضا. خلافا لمن قال : إن أول وقتها ما بعد القامتين. ( 24 ) قال شيخ الإسلام ابن حجر فى الفتح : قوله (( نقية )) بالنون أوله, أي خالصة صافية لم تدخلها صفرة ولا تغيرٌ.

وقوله (( والمغرب إذا وجبت )) أي الشمس. الوجوب السقوط. ويستدل به على أن سقوط قُرْصها يدخل به الوقت. والأماكن تختلف. فما كان منها فيه حائل بين الرائي وبين قرص الشمس لم يكتف بغيبوبة القرص عن الأعين ويستدل على غروبها بطلوع الليل من المشرق. قال صلى الله عليه وسلم (( إذا غربت الشمس مِن هاهنا وطلع الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم )) أو كما قال. فإن لم يكن ثَم حائل فقد قال بعض أصحاب مالك : إن الوقت يدخل بغيبوبة الشمس وإشْعاعها المُسْتَوْلِي عليها. وقد استمر العمل بصلاة المغرب عقب الغروب. وأُخِذ منه أن وقتها واحد. قال أبن دقيق العيد : والصحيح عندي أن الوقت مستمر إلى غيبوبة الشفق.

وأما العشاء فاختلف الفقهاء فيها. فقال قوم : تقديمها أفضل وهو ظاهر مذهب الشافعي. وقال قوم : تأخيرها أفضل. وقال قوم : إن اجتمعت الجماعة فالتقديم أفضل وإن تأخرت فالتأخير أفضل, وهو قول عند المالكية. ومستندهم هذا الحديث. وقال قوم إنه يختلف باختلاف الأوقات ففى الشتاء وفى رمضان تؤخر وفى غيرهما تُقدم. وإنما أُخرتْ فى الشتاء لطول الليل وكراهة الحديث بعدَها.

وقوله (( يصليها بغلس )) وفسر الغلس بأنه اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل. قال ابن دقيق العيد : وأن الحديث دليل على أن التغليس بالصبح أفضل. [29]




الخاتمة

لما كانت الصلاة هي أفضل العبادات وفرضها أفضل الفرائض ونوافلها أفضل النوافل فالعلماء يبحثون ويستنبطون الأحكام فيما تتعلق بالصلاة من كل وجه. وكل ما عرضنا وجمعنا فى هذا المقال كلام من كلام الجمهور, لذا أقول : اعلم أيها الواقف على الجمع المذكور أنه ليس لي فيه إلا النقل من كلام الجمهور والإتيان فى ذلك بالشيئ المقدور, فالميسور - كما قيل – لا يسقط بالمعسور. وما رأيتَه من خطأ فمن تخليط حصل مني أو وهم صدر من سوء فهمي, فالمسؤول ممن عثر على شيئ من الخلل أن يصلحه ويسامح فيما قد يظهر من الزلل.
وما أحسن ما قيل :
وإن تجد عيبا فسد الخلل      فجل من لا عيب فيه وعلا
وأسأل الله التوفيق وأن يجعل هذه المقالة مقلة نافعة لكاتبها خاصة وللواقف فيها عامة. فالله ولي التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.







المراجع

·       القرآن الكريم
·       صحيح البخاري, القاهرة : مكتبة الصفا, ط1, 1423 هـ.
·       ابن حجر العسقلاني, فتح الباري , شبرى الخيمة : دار التقوى.
·       البيضاوي, منهاج الوصول, مقر الفرقة الثانية بكليات الشريعة بجامعة الأزهر, ط 1428- 1429 هـ.
·       الإسنوي, نهاية السول, مقرر الفرقة الثانية بكليات الشريعة بجامعة الأزهر, ط 1428- 1429 هـ.
·       شيخ محمد بخيت المطيعي, سلم الوصول لشرح نهاية السول.
·       الشاطبي, الموافقات, القاهرة : دار الحديث تحقيق الشيخ عبد الله دراز.
·       ابن رسلان, متن الزبد, القاهرة : مكتبة مصطفى البابى الحلبي, ط 3.
·       السيوطي, الأشباه والنظائر, القاهرة : دار التوفيقية للتراث, 2009 م.
·       ابن دقيق العيد, إحكام الأحكام, مكتبة أولاد الشيخ للتراث, 2005 م.


يناقش البحث في مركز كواكب الفصحاء بالقاهرة ، 22 مارس 2013 م

  

   




[1] . النساء : 103
[2] . الإسراء : 78
[3] . النحل : 44
[4] . صحيح البخاري, كتاب مواقيت الصلاة. باب فضل الصلاة لوقتها.
[5] . صحيح البخاري, كتاب الجهاد والسير, باب فضل الجهاد والسير. ج 2.
[6] . صحيح البخاري. كتاب التوحيد. باب وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملا. ج 3.
[7] . صحيح البخاري, كتاب الأدب, باب قول الله تعالى (( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا )). ج 3.
[8] . فتح الباري, ابن حجر العسقلاني ج 13.
[9] . المنهاج للقاضى البيضاوي
[10] . نهاية السول شرح المنهاج للإمام الإسنوي
[11] . سلم الوصول للشيخ محمد بخيت المطيعي
[12] . تحقيق الموافقات للشيخ عبد الله دراز
[13] . الموافقات, للشاطبي
[14] . فتح الباري ج 6
[15] . سلم الوصول
[16] . الموافقات
[17] . فتح الباري ج 6
[18] . متن الزبد
[19] . الأشباه والنظائر للإمام السيوطي
[20] . الموافقات
[21] . سلم الوصول
[22] . إحكام الأحكام للإمام ابن دقيق العيد
[23] . فتح الباري ج 2
[24] . صحيح البخاري باب الإبراد بالظهر فى شدة الحر
[25] . فتح الباري ج 2
[26] . صحيح البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب مواقيت الصلاة وفضلها
[27] . فتح الباري ج 2
[28] . صحيح البخاري, باب وقت المغرب 560.
[29] . إحكام الأحكام, ابن دقيق العيد.

No comments:

Post a Comment