Saturday, June 22, 2013

الإعجاز العلمي وتفسيره للقرأن الكريم بين دعاة المنع و تلبية العصر

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا عليك توكلنا و إليك أنبنا و إليك المصير
القاهرة، 26 ديسمبر 2012


الإعجاز العلمي وتفسيره للقرأن الكريم بين دعاة المنع و تلبية العصر[1]


"سنريهم أياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أولم يكف بربك أنه على كل شيئ شهيد"
 (فصلت: 53)
"من أراد العلم فليثور القرأن، فإن فيه علم الأولين و الأخرين"
 (عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه)

بقلم: عبد ربه موليادي الجاوي


الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله وعلى أله وصحبه ومن والاه. وبعد

  1. تمهيد
في عصر يتقدم فيه العلوم و الإكتشافات العلمية الحديثة و النظريات المختلفة وهي تلقي نفسها أمام الحضارة الإنسانية لتتعرف على الأسرار الطبيعية والعجائب الكامنة وما أودعه الله من الأيات في الأفاق و الأنفس، وفي عصر طغت فيه المادة، وظهر فيه الإلحاد واعتبر الدين هو مخدرالشعوب وراح الناس يعبدون المادة بدلا من عبادة رب الكون، في ظل هذه الظروف يبرز القرآن ليتحاور مع ما وصله الإنسان من اكتشافاته و نظرياته و ليؤكد له أن المادة بهذا التوازن والتناسق والإنتظام في الكون لابد من الخالق المبدع وليبرهن أن الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم هو الحق. مصداقا لقول الله تعالى: (سنريهم أياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيئ شهيد) (فصلت: 53).
كم من عالم من علمائهم بعد عناءهم في البحوث و الكشوف خروا ساجدين أمام الحقائق القرآنية المعجزة بعد أن علموا أن ما جاء في القرآن هو الحق لا ريب فيه، لإيمانهم أن ما ورد في القرآن لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون من افتراء محمد صلى الله عليه وسلم فضلا عن اختلاق غيره نظرا لقصور تقنيتهم العلمية و الأدوات المتاحة آنذك. لقد أكد ذلك الطبيب الفرنسي الذي أسلم  موريس بوكاي بقوله: "ولا يستطيع الإنسان تصور أن كثيرا من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، لذا فمن المشروع تماما أن ينظر إلى القرأن على أنه تعبير الوحي من الله وأن تعطى له مكانة خاصة جدا حيث إن صحته أمر لا يمكن الشك فيه وحيث إن احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو كأنها تتحدى أي تفسير وضعي"[2].  إذا كان القرأن لم يكن من افتراء محمد و لا غيره من المخلوقات ثبت أن القرأن من عند الله الخالق الجبار صاحب القوى و القدر. وصدق الله إذ يقول: (وما كان هذا القرأن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) (يونس: 37).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حث على أمته لتدبر أيات الله الكونية و الوقوف عندها لمعرفة عظمة الله في صنعه و قدرته في خلقه و وصف الذي أهمل التدبر بالويل والثبور. أورد الإمام ابن كثير في تفسيره رواية عن ابن مردويه في حديث -ما ملخصه- قال بلال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة (إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لأيات لأولى الألباب) ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها" وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره وهكذا رواه ابن أبي حاتم و ابن حبان في صحيحه[3].
و كذلك الصحابة رضوان الله عليهم لقد أدركوا عظمة الله في صنعه عندما سمعوا الأيات التي تشير إلى عجائب خلق الله، و تسابقوا بسليقتهم العربية وصفاء قريحتهم الحادة لتدارك أيات الله التي تتلى على مسامعهم وتقرع أذهانهم وبادروا إلى ختمها قبل أن يسمع أخرها. هذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل عندما سمع أيات خلق الإنسان دفعه نفسه ليقول: فتبارك الله أحسن الخالقين. ذكر الإمام السيوطي الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن زيد بن ثابت، قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأية: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) إلى قوله: (خلقا أخر)، قال معاذ بن جبل: (فتبارك الله أحسن الخالقين)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاذ: مما ضحكت يا رسول الله؟ قال: بها ختمت[4].
القرآن هو دستور خالد للإنسانية و رسالة إلهية خاتمة و كتاب معجز إلى يوم القيامة، وهو يتحدى الإنسان في كل زمان ومكان، وهذا التحدي ليس في العصر المبعث فحسب بل امتد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث عن الحارث الأعور بقوله: "كتاب الله تعالى فيه نبأ ما كان قبلكم، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا (إنا سمعنا قرأنا عجبا، يهدي إلى الرشد فأمنا به)، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم[5].
لقد حاول العلماء قديما وحديثا لمعرفة أسرار القرآن وخاضوا في بحار معانيه، والتمسوا درره وجواهره، وترك السلف لنا تراثا ضخما في تفسير القرآن الكريم على اختلاف مشاربهم وتنوع مناهجهم في فهم الأيات ومع ذلك لا يخلق القرأن على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه. وها نحن في القرن الخامس عشر من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغم ذلك نجد القرآن الكريم غضا طريا كما أنزل ولا نشعر بأنه بعيد عنا مهما تباعد الزمان عنا وهو بحق كنز لا يفنى و ملك لا يبلى.
ومنذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري إلى يومنا هذا، ظهر نوع جديد من أنواع إعجاز القرأن وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي نتيجة تقدم العلوم الطبيعية والإكتشافات الكونية والإختراعات في شتى مجال الحياة، مما لم يصل إليه المتقدمون في حضارة الإنسان. وظهور هذا الإتجاه الجديد في فهم الإشارات الكونية في القرآن يثير جدلا واسعا في ساحة العلم بين المؤيدين للتفسير العلمي لأنه يعتبر تلبية القرآن لهذا العصر وبين المعارضين له لأن القرآن كتاب هداية و ليس كتاب علم وتحميل القرآن لمعطيات النظرية العلمية المتغيرة سيؤدي إلى المساس بقدسية القرآن على حسب قولهم، وكل حزب بما لديهم فرحون.
 والذي يهمنا الآن هو موقفنا تجاه الإشارات العلمية أو الكونية في القرآن، ومحاولة بحث نقطة الإتفاق والإختلاف بين كلا الفريقين ووضع شيئ في نصابه حتى لا نقع في الإفراط والتفريط. وأسأل الله أن يوفقني في هذا البحث، إنه ولي التوفيق.

  1. الغاية العظمى للقرأن
قبل أن نغوص في أعماق هذا البحث لا بد من الكلام عن الغاية التي أنزل القرآن من أجلها. ولا يمكننا أن نعرف هذه الغاية إلا بالرجوع إلى صاحبها وهو القرآن. لقد تحدث القرآن عن نفسه حول هذه الغاية أنه إنما أنزل للهداية كما ورد في كثير من الأيات في القرآن الكريم. منها تجد في أول صفحة من القرآن: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (البقرة: 2)، ومنها قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) (البقرة: 185) وكذلك قوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) (الإسراء: 9) وغير ذلك كثير من الأيات التي تتحدث عن الهدف الأساسي الذي من أجله أنزل القرآن.
وهذه الغاية هي المحور الأساسي لمضمون القرآن كلها من العقيدة و التشريع و الأخلاق و العبادات و المعاملات والوعد والعيد و القصص و الأمثال والإشارة إلى الكون وتدبر ما فيه من عجائب خلق الله و الحديث عن البعث و أحوال الأخرة من الجنة و النار وما إلى ذلك. وهذا كله من أجل هداية البشر للتي هي أقوم مما يعني أن القرآن هو منحة إلهية للبشرية.
إذن هداية القرآن لا تقتصر على جانب من جوانبه الواسعة. فالإشارة العلمية القرأنية التي نحن بصدد الحديث عنها هي إحدى الوسائل القرآنية لهداية البشر، والتي من خلالها يدرك الإنسان عظمة الله تعالى وأنه رب العالمين لا شريك له المستحق للعبادة، فيرجع الإنسان إلى الغاية التي يخلق من أجلها، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 56).



  1. القرآن جامع لعلوم الأولين والأخرين
إذا كان القرأن الكريم هو الرسالة الخاتمة ومصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم قد حوى علوم الأولين والأخرين. لقد أكد ذلك القرأن (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيئ) (النحل: 89)، وكذلك قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيئ) (الأنعام: 38). وقد فهم ذلك منذ القرن الأول لهذه الأمة. وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم القرأن بأنه كتاب الله تعالى فيه نبأ ما كان قبلكم، و خبر ما بعدكم، و حكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين و الأخرين. رواه البيهقي في المدخل وقال: أراد به أصول العلم[6].
وقال الإمام الغزالي في جواهر القرآن بعد ذكر نماذج من علم الطب والفلك وعلم هيئات تركيب السماوات والأرض وعلم تشريح الأعضاء، وهي من علوم الأولين والأخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والأخرين، وذكر أيضا علم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها[7].   وقال الزركشي أن في القرآن علم الأولين والأخرين، وما من شيئ إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى[8]. لقد خص الإمام السيوطي في الإتقان في النوع الخامس والستين الذي تحدث فيه عن العلوم المستنبطة من القرآن. واستدل فيه بالأيات القرآنية و الأحاديث النبوية و أقوال السلف الصالح وذكر قول ابن أبي الفضل المرسي حول فنون متنوعة نابعة من القرآن منها: القراءات، والنحو، والتفسير، وأصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والتاريخ، والقصص، والخطابة والوعظ ، وتعبير الرؤيا، وعلم الفرائض، وعلم المواقيت، و علم المعاني والبيان والبديع، وعلم الحقيقة، وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل، مثل الطب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة وغير ذلك. وفيه أصول الصنائع وأسماء الألات التي تدعو الضرورة إليها: كالخياطة، والحدادة، والبناء، والنجارة، والغزل، والنسج، والفلاحة، والصيد، والغوص، والصياغة، والزجاجة، والفخارة، والملاحة، والكتابة، والخبز، والطبخ، والغسل والقصارة، والجزارة، والبيع والشراء، والصبغ، والحجارة، والكيالة والوزن وفيه من أسماء الألات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله (ما فرطنا في الكتاب من شيئ) (الأنعام:38)[9].
لقد أشار شيخنا الجليل الأستاذ أسامة السيد محمود الأزهري أن من أصول التفسير هو علاقة القرآن بالعلوم المختلفة، معلقا ما ذكره السويطي: وهذه عبارة جيدة في تصوير لمحات من النشاط العلمي الفائق، الذي قامت به الأمة في خدمة النص القرآني الممجد، وكيف أنها استخرجت منه علوما ومعارف بلغت الغاية في الكثرة والتنوع.
فانتبه إلى كيفية قيام الأمة بخدمة النص القرآني وكيف أن طوائف العلماء انكبّوا على ملاحظة إشارات القرآن ولفتاته ثم قاموا بتحويل كل أية أو إشارة أو دلالة فيه إلى برنامج عمل، ومنهج تطبيق، ووسعوا البحث حول كل قضية جاءت في القرآن فتولدت العلوم والفنون والأداب ووجدت الحرف والصنائع[10].

  1. المعجزة نشأتها و تطور مصطلحها و مصطلح إعجاز القرآن
فقد عرف الإمام البيجوري المعجزة في شرحه على جوهرة التوحيد، أن المعجزة لغة: مأخوذة من العجز وهو ضد القدرة. وعرفا: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي الذي هو دعوى الرسالة أو النبوة مع عدم المعارضة[11].
ولكن قبل الكلام عن الإعجاز العلمي أريد أن ننبه أولا، أن هناك فرقا بين تعريف المعجزة السالف الذكر وبين الإعجاز العلمي الذي نتحدث عنه، لأن الإعجاز العلمي لا يتعلق بسنة الله الخارقة للعادة وإنما يتعلق بالنواميس الكونية التي تسمى بسنة الله الجارية. لقد تحدث شيخنا الجليل دكتور طه الدسوقي حبيشي أن الله له نوعان من أنواع الفعل، نطلق على أحدهما سنن الله الجارية و الثاني سنن الله الخارقة. فالسنن الجارية هي تلك التي قد تمثلت في هذا الكون المحكم المنظم، وفي تلك القوانين والنظم المنبثة في هذا الكون، والتي يكشفها الله لعباده آنا بعد آن. وهذه النواميس الكونية وتلك السنن الجارية يؤمن بها المتدينون وغير المتدينين على السواء. واستدلالهم بهذه القوانين وتلك النواميس على وجود الله وكمال صفاته، مصدره الأساسي هو ما يشاهدونه من مظاهر الإعجاز في هذا الكون، وإقرارهم المستمر الدائم بأن هذا الكون بما يشتمل عليه من نظام ولا يقدر عليه إلا خالقه، وأن ما يقف عليه العلماء ليس إلا مجرد وصف لما توصلوا إليه من قانون، أو من قوانين، لا تعد بالنسبة لما أخفى الله عنهم من مثيلاتها إلا كحلقة في فلاة. أما سنن الله الخارقة فهي من مبحث علماء العقائد حينما درسوا المعجزة وجعلوا وظيفتها منحصرة في الدلالة على صدق النبي[12].
أما بالنسبة لنشأة مصطلح "الإعجاز"، فإن كلمة "الإعجاز" حسب استقراء المصادر العلمية الأصلية من الكلمات الحديثة التي لا تستخدم للقرآن في عصر المبعث ولا من بعده وإن وردت مشتقاته للدلالة على عدد من المعاني القريبة أو المغايرة قليلا لذلك في ستة وعشرين موضعا من القرآن الكريم بألفاظ (أعجزت)، و (معجزين)، و (معاجزين)، و (عجوز)، و(أعجاز) وتصريفاتها[13]. ولم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مصطلح "المعجزة" وإنما ظهر هذا المصطلح في وقت متأخر بعض الشيئ عندما دونت العلوم ومنها علوم العقائد في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث[14].
و يذكر القرآن الكريم لفظة "الأية" (مثل ما ورد في الأية 109 من سورة الأنعام)، ولفظة "البينة" (مثل ما ورد في الأية 73 من سورة الأعراف)، ولفظة "البرهان" (مثل ما ورد في الأية 32 من سورة القصص) ولفظة "السلطان" (مثل ما ورد في الأية 10 من سورة إبراهيم) وكلها تدل على دلالات صدق الرسول و إثبات رسالته و أنه مكلف بهداية الناس[15].
وخلوّ القرن الهجري الأول ومعظم الثاني تقريبا من الدراسات القرآنية التي تتصل بإعجاز القرآن، ذلك لأسباب. وأرجع دكتور أحمد جمال العمري كما نقله دكتوركارم السيد غنيم إلى سببين:
1.   لم يستهو العقل المسلم في بدء الرسالة النظر في مثل هذه القضايا العميقة والمسائل الدقيقة، وذلك لارتفاع مستواها العلمي و الديني عما هم عليه وقتئذ، فيكفيهم الإيمان بأن القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أيده الله بها.
2.   كان الصحابة والتابعون يتهيبون مقام القرآن ويقدسون أياته، ولذا لم يسمحوا لأنفسهم أن يلجوا مجالات الجدل و الخلاف والقول في شرح أيات القرآن، فلقد كانوا يتحرجون من تفسير هذه الأيات حتى لا يجدوا أنفسهم في عداد من يقول في القرآن بالرأي[16].
قلت: أما النقطة الأولى فليس معناها أن الصحابة يؤمن بالقرأن عن جهل أو عمى -حاش لله-، و إنما أمنوا بالقرأن لمعرفتهم أن القرآن في أعلى قمّة البلاغة وروعة الفصاحة ورونق البيان و تأثيره على النفوس وأن القرآن يعطي الضوء العلمي الذي يناسب عصرهم ويرضي عقولهم مما يؤدي إلى التصديق بكل ما جاء في القرآن. لقد شهد بذلك الفصحاء والبلغاء من المشركين حين وصفهم للقرآن وقالوا إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، و إن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وأنه يعلو ولا يعلى عليه. والحق ما شهد به الأعداء.
و أما النقطة الثانية فإنما تحرّج الصحابة عن تفسير القرآن بما لا يعلمه أو بالرأي المجرد. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار"[17]. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني و أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وكذلك عمر رضي الله عنه: حينما قرأ على المنبر (وفاكهة وأبا) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر[18].  أما إذا كانوا يعرفون كتاب الله فلا حرج في ذلك. قال ابن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله غيره ما نزلت أية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن الرجل نزلت و أين نزلت ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته[19]. وكذلك ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما الذي دعاه النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل[20].
            لقد فصل الإمام ابن كثير القول حول تحرّج أئمة السلف عن الكلام في التفسير بقوله: فهذه الأثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ولما جاء في الحديث الذي روي من طرق (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)[21].
            وبعد عصر النبوة ثم عصر الخلفاء الراشدين وردح من الزمن في الدولة الأموية، فقدت السليقة العربية صفاءها وبدأت الثقافات الفارسية و اليونانية تأخذ طريقها إلى المجتمع الإسلامي علي ايدي ابناء الأقطار التي فتحها المسلمون.
            ولعل الفكرة قد نشأت في أواخر القرن الثاني الهجري حين كانت البصرة تموج بالتيارات الفكرية المختلفة، من فقهاء ومحدثين ولغويين وأدباء وفلاسفة متكلمين ودعاة إلى مذاهب خارجة عن الإسلام كالثنوية والمانوية والسمنية والدهرية والزردشتية وغيرها.
            اضطر المسلمون في نهاية القرن الثالث وبداية الرابع إلى الكلام في الإعجاز لأن القرأن يتكلم على التحدى في عدة مواضع منه، وإن كان ابن جرير الطبري (310 هـ) من أشهر رجال هذه الفترة. وقد جاء على أثره من المفسرين الأولين حسن بن محمد القمي (378 هـ) في القرن ذاته. وقد ظهرت في هذا القرن ظاهرة لم تكن واضحة في القرن الثالث الهجري وهي أن الأدباء أصبحوا يؤلفون كتبا مستقلة في البلاغة تعنى بإعجاز القرآن.
            جاء القرن الخامس الهجري ، فكان بحق العصر الذهبي لبيان إعجاز القرآن. وقد ظهر الباقلاني (403 هـ) ليؤلف كتابه المشهور (دلائل الإعجاز) وظهر أيضا ابن حزم الأندلسي (456 هـ) فألف كتابه المعروف (الفصل في الملل والنحل) في إعجاز القرآن.
            وجاء القرن السادس الهجري فشرف بظهور كل من الراغب الأصفهاني (502 هـ) و الزمخشري (538 هـ) وابن عطية الغرناطي (542 هـ). وكان من غير المفسرين رجال أفاضوا في مسألة الإعجاز وبينوا أوجه القرآن، منهم الغزالي (505 هـ) والقاضي عياض (544 هـ).
            ثم ظهر فخر الدين الرازي (606 هـ) في القرن السابع الهجري وكان من أشهر أعلام المفسرين فيه، والقرطبي (671 هـ) صاحب الجامع لأحكام القرآن، والبيضاوي (685 هـ) صاحب أنوار التنزيل.
            ثم توالت القرون وجاء ابن تيمية (728 هـ) وابن قيم الجوزية (751 هـ) وابن كثير (774 هـ) وبدر الدين الزركشي (794 هـ) والفيروزأبادي (817 هـ) وجلال الدين السيوطي (911 هـ) وأبو السعود (982 هـ) والشوكاني (1250 هـ) و الألوسي (1270 هـ).
            أما في القرن الرابع عشر الهجري فقد ظهرت النزعة العلمية بقوة واضحة وازداد نشاط العلماء المسلمين (وغير المسلمين أحيانا) في بيان أوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، نظرا لأن لغة الزمن الحديث والمعاصر هي لغة العلوم والمخترعات و المكتشفات. وكان من رجال القرن الرابع عشر الهجري الذين ضمنوا تفاسيرهم إشارات، قصيرة أحيانا و مفصلة أحيانا أخرى، في الإعجاز العلمي للقرآن: الإمام محمد عبده ومحمد رشيد رضا (تفسير المنار) والدكتور محمد محمود حجازي (التفسير الواضح) وسيد قطب (في ظلال القرأن) وطنطاوي جوهري (الجواهر في تفسير القرآن الكريم).
            أما في القرن الخامس عشر الهجري والذي نعيشه الآن فبرز نفر في هذا المجال من المفسرين منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد متولي الشعراوي (صاحب الخواطر) سعيد حوى (صاحب الأساس) أبو الأعلى المودودي (صاحب تفهيم القرأن) أبو العزائم (صاحب أسرار القرأن)[22]
            وقد كثرت التآليف و التصانيف في مسائل إعجاز القرآن خصوصا الجوانب العلمية و الطبيعية و الكونية و الطبية فيه. منهم محمد الغمراوي (الإسلام في عصر العلم) وحنفي أحمد (التفسير العلمي للآيات الكونية) وتوفيق محمد عز الدين (دليل الأنفس بين القرآن و العلوم الحديثة). لقد عد الدكتور كارم السيد غنيم أكثر من ستين مؤلفا في هذا المجال، وسوف يستمر عطاء القرآن على مر الزمان، وسوف يستمر علماء العلوم المدنية والتخصصات الكونية والبحوث والتقنية في الكشف عن مختلف جوانب الإعجاز في كتاب الله المجيد، معجزة الإسلام الخالدة، القرآن الكريم مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة) وتنفيذا للوعد الإلهي: (سنريهم أياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيم لهم أنه الحق)[23].



  1. وجوه إعجاز القرآن
لقد تحدث العلماء عن وجوه إعجاز القرآن في تصانيف متعددة منهم الخطابي (ت 388 هـ)، والرماني (ت 386 هـ)، والباقلاني (ت 403 هـ)، والقاضي عبد الجبار (ت 415 هـ)، والجرجاني (ت 471 هـ)، والقاضي عياض (ت 544 هـ)، والسكاكي (ت 626 هـ)، وابن أبي الإصبع المصري (ت 654 هـ)، والزركشي (ت 794 هـ)، والسيوطي (911 هـ)، والألوسي (ت 1270 هـ)، ومن القرن الرابع عشر الهجري مصطفى صادق الرافعي، وطنطاوي جوهري، ومحمد عبده. ومن القرن الخامس عشر الهجري محمد علي الصابوني، والشيخ الشعراوي، ومناع القطان وغيرهم.
وبعد هذا كله، بقي سؤال، هل إعجاز القرآن محصور إلى وجوه معينة أم أنه لا حدود له؟ لقد ذكر العلماء وجوه إعجاز القرآن منهم السيوطي الذي ذكر خمسة وثلاثين وجها في كتابه "معترك الأقران في إعجاز القرآن" وذكرفيه أن بعضهم أنهى وجوه إعجازه إلى ثمانين. والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكاكي في المفتاح: إعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرين فيهما[24].
قال أبو حيان التوحيدي: سئل بندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن. فقال هذه مسألة فيها حيف على المفتي، وذلك أنه شبيه بقولكم: موضع الإنسان من الإنسان، فليس للإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيئ منه إلا وذلك المعنى أية في نفسه ومعجزة لمحاوله، وأهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.
قال السيوطي: فإذا علمت عجز الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه، فما فائدة ذكرها؟ لكنا نذكر بعضها تطفلا على من سبق، فإن كنت لا ممن أجول في ميدانهم، ولا أعدّ من فرسانهم لعمرك إن دار كريم أبناء الدنيا تتحمل من تطفل عليه فكيف بأكرم الأكرمين و أرحم الراحمين؟[25].
وفي محاولة بحث وجوه إعجاز القرآن قال د. كارم السيد غنيم: وبالرجوع إلى كتاب (مفهوم الإعجاز القرآني) للعمري، وكتاب (مع القرآن) لجاد الحق، وكتاب (مباحث في علوم القرآن) للقطان، وكتاب (وجوه من الإعجاز القرآني) للدباغ، و(التبيان في علوم القرآن) للصابوني، نستطيع أن نخلص إلى ما يأتي:

1.      الإعجاز اللغوي والبلاغي والبياني
لقد نزل القرآن الكريم على قوم عرفوا بالبلاغة والفصاحة وحسن الإداء وجمال المنطق وسلامة التعبير، ونزل عليهم وهم في الذروة من البلاغة وفي القمة من البيان، فلما سمعوه إنبهروا وذهلوا، وهم ملوك الفصاحة وأساطينها، ووجدوا أنفسهم عاجزين أمام تحديه لهم بمشاكلته والإتيان بقرآن مثله ثم بعشر سور ثم بسورة من مثله.
ولقد تكلم في إعجاز القرآن اللغوي والبلاغي الكثير من العلماء ومن أبرز المتقدمين منهم: أبو سليمان محمد بن إبراهيم الخطابي (388 ه)، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (403 ه)، أبو الحسن عبد الجبار القاضي (415 ه)، عبد القاهر الجرجاني (471 ه)، القاضي عياض (544 ه).

2.      الإعجاز النفسي
ورد عن الخطابي في كتابه (بين إعجاز القرآن) قوله: في إعجاز القرآن وجه أخر ذهب عنه الناس، وهو صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه. تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه، عادت مرتاعة، قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف الفرق، وتقشعر منه الجلود، وتفزع له القلوب، ويحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.

3.      الإعجاز التاريخي
يذهب كثير من الباحثين والعلماء إلى أن الإعجاز التاريخي للقرآن الكريم يبدو جليا في إخباره عن الأمور والأحداث الماضية، وما جاء فيه من أخبار تتعلق بالمستقبل، وما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن حاضرا مواقع حدوثه، ويربط بعض العلماء بين ما جاء في القرآن مع حركة التاريخ، فيعرضون للإعجاز الظاهر فيه من هذا المنحى:
1)      وجه يتعلق بمستقبل القرآن
فيه قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (الإسراء: 88). وقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر:9).
2)      وجه يتعلق بمستقبل الدعوة
فيه الإعجاز في الإخبار عن ظهور الإسلام على ما عداه: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (التوبة:33)، وفيه الإعجاز في تكليفه الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدعوة للناس كافة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء:107) (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (سبأ:28).
3)      وجه يتعلق بمستقبل حزب الله
هذا الوجه يتضمن الإخبار بالأخوة والألفة بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: (وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم) (الأنفال:63)، ومنه الإخبار بأن القرآن هو الشرف والذكر القائم له صلى الله عليه وسلم ولقومه، ومنه الإخبار بدخول مسجد الحرام معتمرين، ومنه الإخبار بنصر المؤمنين مع شدة قوة أعدائهم، ومنه الإخبار عن هزيمة المشركين في بدر، ومنه الوعد باستخلاف المؤمنين، ومنه الإخبار بغلبة الروم على الفرس. 
4)      وجه يتعلق بمستقبل أعداء الله ورسوله
أما هذا الوجه فمنه ما نزل في شأن أبي جهل عليه لعنة الله، وما نزل بشأن الأخنس بن شريف الثقفي، وما نزل بشأن النضر بن الحارث،وما نزل بشأن الوليد ابن المغيرة المخزومي.

4.      الإعجاز التشريعي
اشتمل القرآن على الأنظمة التي يحتاجها البشر في حياتهم المعيشية، ولم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا وكانت له نظرته الخاصة في تشريعه المستقل بحيث ينتج من مجموع أنظمته تشريع متكامل لمناحى الحياة كلها: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة:3). إن الجانب التشريعي والخلقي في القرآن الكريم لأية وأيما أية على كون القرآن من عند الله وليس من عند البشر. فالأسس الأخلاقية والقواعد التشريعية السامية التي تضمنها القرآن الكريم تخرج عن طوق البشر إحاطة ودقة وشمولا.
ففي العقيدة، جاء القرآن الكريم بعقيدة سهلة خالية من التعقيدات، ملائمة للفطرة الإنسانية، تملأ النفس طمأنينة وارتياحا، والقلب نورا وانشراحا، والعقل قناعة ورضا. وفي الشريعة لن تجد أفضل مما وضعه الله للناس في القرآن الكريم من رابطة الولاء له سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وما قرره من التشريعات التفصيلية للفرد والمجتمع، صيانة للدماء والمال وللأعراض وبناء الأسرة وحفاظا على كيانها وتنظيما للدولة وضبطا للحكومة، وقوانين تحقق التكافل الإجتماعي. 

5.      الإعجاز الغيبي
يدخل في الإعجاز الغيبي للقرآن الكريم إخباره عن بداية نشأة الكون وما وقع منذ خلق آدم عليه السلام إلى مبعث رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من الأمور العظام. ويشمل كذلك ما غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه من الأمور والأحداث، وكان الوحي يخبره عنها، ويشمل إخباره بما يكيده اليهود والمنافقون، ويشمل أيضا إخباره عن الكائنات وعن أحداث ستقع في المستقبل. وبعبارة أخرى فالإعجاز الغيبي للقرآن الكريم إعجاز في الغيب الماضي، و إعجاز في الغيب الحاضر، وإعجاز في الغيب المستقبل.

6.      الإعجاز الموسيقي
هناك نفر من المهتمين بالموسيقى يذهبون إلى أن في القرآن الكريم (إعجاز موسيقي)، حيث تنبعث في تلاوته أصول الموسيقي وقواعد أحكامها، واستدل هؤلاء على محافظة القرآن الكريم على موسيقاه وحرصه على نغمه الصوتي، بزيادة حرف في بعض الألفاظ كقوله تعالى: (وتظنون بالله الظنونا) (الأحزاب:10) (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) (الأحزاب:66) كذلك حذف حرف من ألفاظ أخرى (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) (الرعد:9) وكذلك تقديم ما هو متأخر في الزمان كقوله تعالى (فلله الأخرة والأولى) (النجم:25)، فلو وضعت (الأولى) قبل (الأخرة) في الأية لفقدت موسيقاها.
حتى إنهم تكلموا في جوانب (الموسيقي التصويرية) التي تظهر واضحة ومناسبة للآيات، ولعل النص القرآني الآتي يوضح موسيقى تصويرية تختلف عن موسيقى النص الثاني (فهو في عيشة راضية.  في جنة عالية . قطوفها دانية.  كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) (سورة الحاقة: 21-24)
(خذوه فغلوه. ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) (سورة الحاقة: 30-32).

7.      الإعجاز العلمي
إذا كان التفسير العلمي هو الكشف عن معاني الأياة في ضوء ما ثبتت صحته من نظريات العلوم الكونية، فإن الإعجاز العلمي هو إخبار القرآن الكريم بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيرا، وثبت عدم إمكان إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت أبحاث (الإعجاز العلمي) متعلقة بالتفسير العلمي للأيات الكونية ومتصلة بشرح الأحاديث في هذه المجالات، فهي فرع من فروع التفسير وتقوم على مصادره. ولما كانت قائمة على إظهار التوافق بين نصوص الوحي وبين الكشف العلمي التجريبي عن حقائق الكون وأسرارهن فهي كذلك تقوم على مصادر العلوم التجريبية إلى جانب العلم المتعلق بتاريخها، كما تتصل أيضا بعلم أصول الدين.
وإذا كان محل التفسير والإعجاز واحدا وهو أيات الإشارات العلمية القرآنية فإن هذا يبرر دراستهما ضمن باب واحد. وإذا كان أحدهما (وهو التفسير) أعم وأشمل فهو يوضح ويبين المعاني والحقائق في جميع هذه الأيات سواء كانت موجودة قبل نزوله، أو عند نزوله، أو التي اكتشفت بعد نزوله، بينما يقتصر الإعجاز على تلك التي اكتشفت بعد النزول. فإنه أصبح من الضروري عند دراسة تفسير الإشارات العلمية القرآنية تخصيص جزء (فصل) مستقل لبيان الإعجاز العلمي في هذه الإشارات.
إننا متفقون ومعنا كل العقلاء والمستنيرين من العاملين في حقول الدعوة والتوجيه على أن القرآن الكريم أساسا هو كتاب لتوضيح أسس الهداية وترشيد سلوك الناس وضبط نظام حياتهم، فكيف يتم ذلك دون أن يأمر الله فيه الناس بنظام تعاملهم مع الكون المخلوق من أجلهم، ودون أن يأخذ المسلمون من القرآن ما يقدح زناد الفكر عندهم فيدرسون ويكتشفون ويخترعون، مثلما حدث هذا مع المسلمين من قبل حين نهضوا وأسسوا حضارة عالمية سامقة[26].
وذكر دكتور زغلول النجار ستة عشر وجها منها الإعجاز اللغوي، والإعجاز العلمي، والإعجاز العقدي (الإعتقادي)، الإعجاز التعبدي (العبادي)، الإعجاز الأخلاقي، الإعجاز التشريعي، الإعجاز التاريخي، الإعجاز التربوي، الإعجاز النفسي، الإعجاز الإقتصادي، الإعجاز الإداري، الإعجاز الإنبائي، الإعجاز الصوتي، الإعجاز الرقمي/ الحسابي/ الرياضي، إعجاز حفظه، اعجاز التحدي به[27].
إن هذه الوجوه التي ذكرها العلماء لا يعني أن إعجاز القرآن يتوقف عندها فحسب بل من الممكن أن يزداد شيأ فشيأ مع مرور الزمان و تقدم علمي مما لا يعلمه إلا الله. قال الغزالي: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود و اندرست الآن فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها، وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها ويحظى بها بعض الملائكة المقربين[28].
وإذا كنا قد سردنا أوجه الإعجاز التي ذكرها العلماء سأخص مبحثا خاصا للإعجاز العلمي وتفسيره الذي نحن بصدد الحديث عنه في الباب الآتي، إن شاء الله ولكن لابد من التوطئة حول التفسير.

  1. التفسير القرآني ليس كلأ مباحا
            التفسير لغة (تفعيل) من الفسر وهو البيان والكشف، ويقال: هو مقلوب السفر، تقول: أسفر الصبح إذا أضاء، وقيل: مأخوذ من التفسرة، وهي اسم لما يعرف به الطبيب من المرض[29]
            أما تعريف التفسير في الإصطلاح فهناك تعاريف متعددة، منها ما ذكره السيوطي في الإتقان، التفسير في الإصطلاح نزول الأيات وشئونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرمها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها.
            قال أبو حيان، التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك.[30]
            وعرفه شيخ الأشياخ الزرقاني بقوله علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. واختار هذا التعريف الدكتور عبد الفتاح عبد الغني العواري (أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين-القاهرة)  وقال –بعد سرده للتعاريف المتعددة- بيد أن أوضحها سبيلا وأجلها صورة وأوفاها بالغرض هو التعريف الذي ذهب إليه شيخ الأشياخ الزرقاني عليه الرحمة، وبهذا تكون عبارته على قلة وجازتها وغاية قصرها تعريفا جامعا مانعا[31]
            وبعد هذا التعريف، علمنا أن التفسير إنما هو البحث عن مراد الله في كلامه بقدر الطاقة البشرية. وكان السلف الصالح يهابون من الكلام في كتاب الله بما لا يعلم، لمعرفتهم قداسة الكتاب الكريم وقدر هذا الوحي العظيم. لما فيه من الوجوه والنظائر، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق و المقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ، و أسباب النزول وغيرها. إذا أخطأ في فهم كتاب الله سيكون خطرا على الدين. وأوضح مثال على ذلك: حكي عن عثمان بن مظعون و عمرو بن معديكرب، أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: (ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)، ولو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك، وهو أن ناسا قالوا لمّا حرّمت الخمر: كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس؟ فنزلت[32].
            قال الخويي: علم التفسير عسير يسير، أما عسره فظاهر من وجوه، أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان الوصول إليه بخلاف الأمثال و الأشعار ونحوها، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه أو ممن سمع منه، وأما القرأن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك متعذر إلا في ايات قلائل، فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، والحكمة فيه أن الله تعالى أراد أن يتفكر عباده في كتابه، فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد في جميع أياته[33].

شروط المفسر
ولخطورة هذا العلم وضع العلماء الشروط والضوابط التي لا بد أن تتوفر لدى المفسر حتى يؤهله في فهم كلام الله. الشروط فيما أرى ثلاثة أنواع:
1. الشروط التي تتعلق بكيفية التفسير
قال العلماء:
1. من أراد تفسير الكتاب العزيز، طلبه أولا من القرآن، فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع أخر، وما اختصر في مكان بسط في موضع أخر منه.
2. فإن أعياه ذلك طلبه من السنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة.
3. فإن لم يجده في السنة رجع إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله، ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، وقد قال الحاكم في المستدرك: إن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم المرفوع.

2. الشروط الشخصية التي تتعلق بالمفسر نفسه
وقال الإمام أبو طالب الطبري في أوائل تفسيره: القول في أدوات المفسر: إعلم أن من شرطه:
1. صحة الإعتقاد أوّلا ولزوم سنة الدين، فإن من كان مغموصا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا، فكيف على الدين! ثم لا يؤتمن من الدين على الإخبار عن عالم، فكيف يؤتمن في الإخبار عن أسرار الله تعالى، ولأنه لا يؤمن إن كان متهما بالإلحاد أن يبغي الفتنة، ويغوي الناس بليّه وخداعه كدأب الباطنية وغلاة الرافضة، وإن كان متهما بهوى لم يؤمن أن يحمله هواه على ما يوافق بدعته كدأب القدرية.
2. صحة المقصد فيما يقول ليلقى التسديد فقد قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)، وإنما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا، لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به إلى عرض يصده عن صواب قصده، ويفسد عليه صحة عمله.
3. وتمام هذه الشرائط أن يكون ممتلئا من عدة الإعراب، لايلتبس عليه اختلاف وجوه الكلام، فإنه إذا خرج بالبيان عن وضع اللسان، إما حقيقة أو مجازا فتأويله تعطيله[34].

3. الشروط العلمية التي لابد أن تتوفر لدى المفسر
وقال بعضهم: اختلف الناس في تفسير القرآن، هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لايجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيئ من القرآن، وإن كان عليما أديبا متسما في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والأثار، وليس له الا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها، وهي خمسة عشر علما:
- اللغة، لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع. قال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الأخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب.
- النحو، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب، فلابد من اعتباره.
- التصريف، لأن به تعرف الأبنية والصيغ.
- الإشتقاق، لأن الإسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين، اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح، هل هو من السياحة أو المسح.
- المعاني، والبيان، والبديع، لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر، لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك بهذه العلوم.
- علم القراءات، لأنه يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
- أصول الدين، بما في القرآن من الأيات الدالة بظاهرها على ما لايجوز على الله تعالى، فالأصولي يؤول ذلك، ويستدل على ما يستحيل وما يجب وما يجوز.
- أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الإستدلال على الأحكام والإستنباط.
- أسباب النزول والقصص، إذ بسبب النزول يعرف معنى الأية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه.
- الناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره.
- الفقه
- الأحاديث المبينة لتقسير المجمل والمبهم.
- علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم).
قال ابن أبي الدنيا: وعلوم القرآن وما يستنبط منه بحر لا ساحل له. قال: فهذه العلوم التي هي كالألة للمفسر لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها، فمن فسر بدونها كان مفسرا بالرأي المنهي عنه، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأي المنهي عنه[35].
- وزاد بعض المتأخرين العلم الأخر وهو العلوم العصرية، كما ذكره د. مولاي عمر بن حماد إن العلوم التي اشترطها العلماء في المفسر إنما ارتبطت بالعلوم التي وقفوا على حاجة المفسر إليها، وفي عصرنا يزداد اتجاه الإستفادة من الإكتشافات العلمية في مجال التفسير بروزا مع التورة العلمية. ويمكن أن يضاف الدراست النفسية والإجتماعية، وهاتان النافذتان تعتبران إضافة متميزة في عصرنا، أي دراسة ما صار يعرف بالسنن الإجتماعية والسنن الكونية[36].
            فهل بعد هذا يسمح لأي أحد أن يتكلم في كتاب الله؟ حاشا وكلا، وظهور كثير من انحرافات التفسيرية بكل أنواعه وصوره إنما بعدم مراعاة الشروط والضوابط التي وضعها العلماء وعدم تمكّن البعض من هذه العلوم التي تأهلهم في التفسير، فضلوا وأضلوا، الأمر الذي يؤكد على أن التفسير ليس كلأ مباحا، ولكن من سار على درب وصل.
            لقد كشف علماؤنا وأساتذتنا –والحمد لله- عن أهمية تنقية التفسير من هذا التدليس والأباطيل والإنحرافات التفسيرية ما يعرف باسم "الدخيل في التفسير". وقد درست هذه المادة في قسم التفسير بكلية أصول الدين جامعة الأزهر. وممن قاموا بالتأليف في هذه المادة الأستاذ إبراهيم عبد الرحمن خليفة في كتابه الدخيل في التفسير، والأستاذ جمال مصطفى عبد الحميد عبد الوهاب النجار في كتابه أصول الدخيل في تفسير آي التنزيل.

  1. الإعجاز العلمي وتفسيره
وبعد أن تكلمنا عن الشروط والضوابط في تفسير كتاب الله فلنشرع الآن إلى مبحثنا في الإعجاز العلمي. لقد استشكل الشيخ محمد غزالي هذا المصطلح (الإعجاز العلمي) في بادئ الأمر، لأن الإعجاز يعني استمرارية المعجزة وخلودها واقترح أن يستخدم مصطلح دلائل النبوة، الإعجاز هو أن يعجز الإنسان عن الإتيان بمثل هذا، هم عجزوا عن الإتيان بآيات تدانيه. الخلود يعني عجز البشر عن الوصول إلى ما وصل إليه القرآن من الإشارة للحقائق والقوانين العلمية وما إلى ذلك، إذا سلمنا بأن هناك شيأ من الإعجاز العلمي، لكن العلم الآن –وقد وصل إلى ما وصل إليه- أثبت ما وصل إليه، وأصبح ما أثبته القرآن غير معجز لعالم اليوم. لقد استطاع العلم كشف آفاق تجاوزت ما ورد من إشارات علمية في القرآن، لأن ما جاء به القرآن كان معجزا في عصر معين، ولا يمكن أن نحكم بإعجازه إلا من خلال ذلك العصر. أما اليوم، فقد تجاوز العلم تلك الآفاق مما قد يدفعنا إلى القول بأن هذه الآيات ليست معجزة لعالم اليوم، وأنها كانت معجزة لعالم الأمس، والقرآن معجزة لها صفة الخلود، فلماذا لا نقول إن هذا من دلائل النبوة؟. فقد يكون من المفيد الفريق بين دلائل النبوة والإعجاز. الإعجاز هو الأمر الذي لا يستطيع الناس الإتيان بمثله، فهو أمر خارق للعادة يعجز الناس عن الإتيان بمثله في كل العصور. كونهم الآن عرفوا تطور الأجنة ووصلوا إلى ما هو أبعد من ذلك في هذا الأمر، وكون القرآن ذكر في فترة ماضية، لم يكن العلم ولم تكن الوسائل المؤهلة لإعطاء الإنسان هذه المعلومة، فذلك لا يعني إبطال الإعجاز. معنى إعجاز القرآن العلمي: أنه اكتشف كنه شيئ، ما كان الناس يستطيعون أبدا أن يعرفوه في حينه، كون أنه بعد قرون، عرف أن ما اكتشفه القرآن حق، فهذا دليل صدقه. وفي نهاية الأمر أنهى الشيخ كلامه إلى أن قال أن الخلاف حول التسمية (بالإعجاز) خلاف لفظي ليس له قيمة كبيرة [37].
وفي هذا البحث أريد أن ننبه عن الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي. وفرق الدكتور زغلول النجار بين الإعجاز العلمي والتفسير العمي. الإعجاز العلمي يقصد به إثبات سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون، وفي زمن لم يكن لأي من البشر إمكانية الوصول إلى تلك الحقيقة عن طريق العلوم المكتسبة أبدا. وأما التفسير فهو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الأية القرآنية إن أصاب فيها المفسر فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، والمعول عليه في ذلك هو نيته. وهنا يجب التأكيد على أن الخطأ في التفسير ينسحب على المفسر، ولا يمس جلال القرآن الكريم. ويترتب على ذلك كما يراه زغلول النجار أنه لا حرج من توظيف النظريات السائدة المقبولة المنطقية في التفسير العلمي للقرآن الكريم. أما الإعجاز العلمي لهذا الكتاب العزيز فلا يجوز أن يوظف فيه إلا القطعي الثابت من الحقائق العلمية التي لا رجعة فيها وذلك في جميع القضايا الوصفية. أما القضايا المتعلقة بالخلق والإفناء والبعث لكل من الكون والحياة والإنسان فبما أنها لا تخضع لإدراكنا المباشر، فيجتهد العلماء في وضع عدد من النظريات لتفسيرها، وتتعدد النظريات بتعدد خلفية واضعيها، ويبقى للمسلم نور من الله تعالى في أية قرآنية كريمة أو في حديث نبوي مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يعين العالم المسلم على الإرتقاء بإحدى هذه النظريات إلى مقام الحقيقة –لا لأن العلوم المكتسبة قد وصلت فيها إلى الحقيقة- ولكن لمجرد وجود إشارة لها في كتاب الله أو في أقوال خاتم أنبيائه ورسله –صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين[38].

نشأة التفسير العلمي
      إذا لاحظنا عن نشأة التفسير العلمي نجد أن بذور هذا التفسير كامن في كتاب الله لما فيه من الإشارة إلى تدبر ما في أفاق الكون من السماوات وما في الأرض والشمس والقمر والنبات والحيوانات والجبال والأنهار والبحار وغيرها، وتفكر ما في الأنفس من خلق إنسان و جعل فيه السمع والبصر والأفئدة، والحفاظ على الصحة واجتناب ما يؤدي إلى الضرر وغيرها مما لا يحصى ولا يعد. وهذا هو السر في قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول قول الله (إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لأيات لأولى الألباب) ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها". وهذه الإشارة هي التي تدفع الصحابي الجليل أبي بن كعب ليقول "فتبارك الله أحسن الخالقين" بعد سماعه أيات خلق الإنسان. وهذا ما فهمه ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: "من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين و الأخرين". ثم لما توسعت رقعة بلاد الإسلام، واختلطت الثقافة العربية مع ثقافة أخرى مثل الفرس والروم واليونان وترجمت كتب الأوائل إلى اللغة العربية فظهرت النهضة العلمية في الحضارة الإسلامية، وراح العرب والمسلمون بتدوين العلوم وتوليدها مما أثر في ظهور التيارات والمذاهب المختلفة في علم الكلام والفلسفة والفقه واللغة والتفسير والحديث وغيرها.
وذهب الدكتور محمد حسين الذهبي إلى أن هذه النزعة –نزعة التفسير العلمي- تمتد من عهد النهضة العباسية إلى يومنا هذا، وأنها كانت في أول الأمر عبارة عن محاولات، يقصد منها التوفيق بين القرآن وما جد من العلوم، ثم وجدت الفكرة مركزة وصريحة على لسان الغزالي وابن العربي والمرسي والسيوطي، ولوجدنا أيضا أن هذه الفكرة قد طبقت علميا وظهرت في مثل محاولات الفخر الرازي ضمن تفسيره للقرآن. ثم وجدت بعد ذلك كتب مستقلة في استخراج العلوم من القرآن، وتتبع الأيات الخاصة بمختلف العلوم، وراجت هذه الفكرة في العصر المتأخر رواجا كبيرا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما ألفت بعض التفاسير التي تسير على ضوء هذه الفكرة[39].

  1. أراء العلماء في الإعجاز العلمي وتفسيره
اختلف العلماء قديما وحديثا في الإتجاه العلمي في تفسير القرآن الكريم بين المانعين و المجيزين، ولكل منهما أدلتهم التي تؤيد موقفهم. فلنشرع الآن إلى البيان والتفصيل.
أ‌.        المانعون للتفسير العلمي وأدلتهم
ومن العلماء الذين ذهبوا إلى منع التفسير العلمي:
  1. من علماء المتقدمين
من فرسان هذا الرأي قديما هوالإمام الشاطبي (ت 790 هـ)، وانطلق من أصل المسألة وهو أن هذه الشريعة المباركة أمّية. وخلاصة ما استدل به الشاطبي ما يلي:
أ‌.     قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم)، وقوله تعالى: (فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته). وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى أمة أمية) لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين. و الحديث: (نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا).
ب‌.     وبنى الشاطبي من هذا الأصل أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي لا بد أن تكون على ما يعهده العرب، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمّية، ولأنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا، ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز، بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، ولذلك قال تعالى: (ولو جعلناه قرأنا أعجميا لقالوا لولا فصلت أياته أءعجمي وعربي).
ت‌.   وقال الشاطبي أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه. وذكر الشاطبي العلوم المألوفة لدى العرب منها: علم النجوم وما يختص بها من الإهتداء في البر والبحر، وعلم الأنواء وأوقات نزول المطر، وعلم التاريخ وأخبار الأمم الماضية وأكثره من الأخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم، وما كان أكثره باطلا أو جميعه كعلم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة، ومنها علم الطب مأخوذ من تجاريب الأميين غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون، ومنها علم البلاغة، ومنها ضرب الأمثال.
ث‌.   وبناء على هذا الأصل وهو ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، صرح الشاطبي أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو للمتأخرين: من علوم الطبيعة، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون. وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، وإلى هذا فإن السلف الصالح –من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيئ من هذا المدعى سوى ما تقدم، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيئ مما زعموا. ولكن الإمام الشاطبي في نفس الوقت اعترف و أقر بوجود العلوم في القرآن إلا أنها من المعهود عند العرب، وقال: نعم، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الإهتداء بتعليمه والإستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا.
ج‌.   وفند الشاطبي أدلة المؤيدين للتفسير العلمي بأن المراد من الأيات في قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيئ) وقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيئ) المراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في الأية الثانية اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية. وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، أما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ويجب الإقتصار -في الإستعانة على فهمه- على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق[40].

مناقشة أدلة الشاطبي
وهذا الذي ساقه الشاطبي من الأدلة لا يسلم من النقد بل يثير رد فعل من العلماء وقاموا بنقد رأيه لتصحيح المفاهيم حول هذا الموضوع خاصة قضية أمية الشريعة لأمة أمية.
نقطة بعد أخرى، وقام بنقدها:
أ‌.     علّق الشيخ عبد الله دراز -في شرحه على الموافقات للشاطبي- أن المراد بأمّية الشريعة، أنها لا تحتاج -في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها- إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك. والحكمة في ذلك: أولا أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أميون على الفطرة، وثانيا فإنها لو لم تكن كذلك لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم[41]. فلقد انبرى محمد الطاهر بن عاشور من المفسر التونسي المعاصر (صاحب تفسير التحرير والتنوير) إلى تفنيد مقالة الشاطبي لوجوه: منها إن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال، وهذا باطل، يقول الله سبحانه (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا...) <هود:49> فهذا تصريح بأن القرآن يحتوي كثيرا من الحقائق التي يجهلها قومه، والتي هي من قبيل أنباء الغيب والمعجزات[42]. ويتساءل الشيخ محمد غزالي ما قاله الشاطبي: فهل يعقل أن تكون هذه الأمية خالدة؟ أم أنها مرحلة مؤقتة كان العرب عليها، ومن ثم انتهت وأصبحت الأمة تكتب وتحسب؟ وأرى أن الأمة في مرحلة حياتها، قد تكون أمية لا تقرأ، ولا تكتب ولا تحسب، ثم يتغير حالها إلى مرحلة أخرى، فتصبح أمة عالمة قارئة[43].
ب‌.   استدلال الشاطبي -على أنه يجب أن تكون على ما عهدوا حتى تكون حجة عليهم، وقد كان كونها على ما عهدوا دليلا بنفسه على أنها أمية- ، إلا أنه يبقى كونية ووسائل فلسفية، ولكنها صيغت في القالب العربي المعجز لهم عن الإتيان بمثله، بحيث يفهمون معناه والغرض منه، وإن كانوا في تطبيقه وتعرف مبنى أحكامه محتاجين إلى تلك الوسائل، كما إذا بنى أوقات الصلوات الخمس على مواعيد تحتاج إلى الآلات والتقاويم الفلكية، ولم يكتف بالمشاهدات الحسية، كما صنع في الزوال والغروب والشفق...الخ، أو بنى الصوم لا على رؤية الهلال بالبصر، بل وضع القاعدة على لزوم معرفة علم الميقات لمعرفة أول رمضان- لو كان الشارع بدل أن يبني الأحكام على الأمور الحسية التي تسع جميع الخلق، بناها على أمور علمية، كما صورنا، هل كان ذلك يمنع عن فهم القرآن وغرضه، ويكون الحال مثل ما إذا جاء بلغة أعجمية بالنسبة للعرب؟ الجواب بالنفي، غايته أنه يكون في تكاليفها مشاق على أكثر الخلق، وبإلزامهم بتعرف هذه الوسائل ليطبقوا أوامر الشريعة حسبما أرادت، أما أنهم يعجزون عن فهم الكتاب حتى لا يكون حجة فليس بظاهر، لأن حجيته عليهم جاءت من جملة أمور، أهمها عندهم أنه كلام من جنس كلامهم في كل شيئ إلا أنه بأسلوب أعجزهم عن الإتيان بمثله[44]. فالقرآن قد نزل في بادية على نبي أمي وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه على ظاهره وأخذوا منه حكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مقنع، وما درى عربي واحد من أولئك لم جعل الله في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنون المتعددة التي يهيج بعضها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الإستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل؟ بيد أن الزمان قد كشف بعدهم عن هذا المعنى، وجاء به دليلا بينا منه على أن القرآن كتاب الدهر كله[45].
ت‌.   إن علم النجوم لم يكن لجمهورهم، بل للبعض القليل الذي كان يستعمل غالبا دليلا للقوافي في سير الليل، ومع ذلك فلم يتوقف الجمهور في فهمها، ومثله يقال في علوم الأنواء أن ذلك ليس لجمهورهم بدليل ما رواه عن عمر وسؤاله للعباس. فهل كان للعرب من علوم الزراعة وتكوين المني وخلق الإنسان ما تفهم به مثل هذا؟ ومثل أدوار الجنين نطفة ثم علقة ثم مضغة...الخ ومثل تسوية الأصابع على ما هي عليه يعد من أدق تكوين الإنسان وكمال صنعته. إن هذا لا يعرفه العرب ووجه إليهم الخطاب به، وقد فهم سره في هذا العصر[46].
ث‌.   إنه ليس بلازم أن يكون القرآن مجاريا لما عند العرب فيصحح صحيحه أو يزيد عليه أو يبطل باطله، كل هذا تكلف لا داعي إليه في هذا المقام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالكتاب ليخرج الناس كافة من الظلمات إلى النور بتعليم ما لم يعلموا وتصحيح ما أخطأوا فيه، وتوجيه همتهم وعقولهم إلى ما فيه إصلاحهم بالعلم والعمل، سواء أكان لهذا كله أصل عند العرب أم لم يكن له أصل، ولا رابطة مطلقا بين كون الشريعة أمية وكون كل ما جاءت به منطبقا على ما عند العرب، وإعجاز العرب شيئ أخر لا يتوقف على ما قال، قتأمل فالمقام جدير بالتدبر، لأنه إذا كان يكتفي بجنس ما كانوا يعرفون وإن لم يكن هو ولا نوعه، فما الذي يبقي حتى نحترز عنه؟ ولا يبعد أن يكون لبعضهم إلمام بهذه الأجناس والكائنات التي تتعلق بما ورد في الكتاب والسنة[47]. أما كونه لم يقصد فيه تقرير شيئ من هذه العلوم الكونية فظاهر، وأمّا كونه لا يجئ في طريق دلائله على التوحيد ما ينبني عليه التوسع في إدراكها وإتقان معرفتها إذا لم يكن معروفا عند العرب، فهو محل النظر. وهل كل ما تضمنه القرآن من أوصاف نعيم الجنة وعذاب النار من معهود العرب في الدنيا؟ وهل مثل الإسراء والمعراج من معهوداتهم؟ أما أصل الموضوع فمسلم، أنه لا يصح أن يتكلف في فهم كتاب الله بتحميله لما لا حاجة بالتشريع والهداية إليه من أنواع العلوم الكونية، ولكن قصره بطريق القطع على ما عند العرب في علمها ومألوفها، فهذا ما لا سبيل إليه، و لا حاجة له[48].
ج‌.   أما وجوب الإقتصار على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فلم ينقل فيما سبق نسبة علم الحيوان، المسمى بالتاريخ الطبيعي، إلى العرب، ولم ينقل أحد أنهم اشتغلوا به، فعلى رأي المؤلف (الشاطبي) لا يجوز لنا أن نتوصل إلى فهم مثل أيتي سورة النحل في تكوين اللبن والعسل وما فيهما من أعاجيب ربنا في صنعه- لايجوز لنا أن نتوصل إلى ذلك من علم حياة النحل وحياة الحيوان ذي الدر، مع أنه لا يمكن أن تتم العظة والإعتبار الذي يشير إليه الكتاب في أخر كل أية منهما: (إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون) و (يعقلون) لا يتم ذلك على وجهه إلا بمعرفة تكوين العسل واللبن في علم حياة النحل وغيره، وكذا لا يتم فهم (فيه شفاء للناس) على وجهها إلا بعد معرفة ما يصلح من الأمراض أن يكون العسل دواء له، وما لا يصلح بل يكون ضرا، ويترتب أن تكون اللام في "الناس" للجنس أو العموم، وهكذا، والواقع أن كتاب الله للناس كلهم يأخذ منه كل على قدر استعداده وحاجته، وإلا لاستوى العرب أنفسهم في الفهم للكتاب، والأمر ليس كذلك، ألا ترى قول علي: (إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله)[49].


  1. من العلماء المتأخرين
ذكر الدكتور محمد حسين الذهبي (صاحب التفسير والمفسرون) العلماء المتأخرين الذين أنكروا لهذا اللون من التفسير منهم الشيخ محمود شلتوت، أمين الخولي، محمد رشيد رضا، محمد مصطفى المراغي، وهو نفسه (محمد حسين الذهبي) في ضمن مؤيد هذا الرأي[50].
وفيما يقول هؤلاء المنكرون للتفسير العلمي: نجد أنهم يقولون أن الأيات التي حددت أهداف القرآن أبانت في إيجازه أنه كتاب هداية تتمثل في حدودها قيم التربية والتوجيه والعظة والتذكير فلا وجه لتحميل ألفاظه أو آيه ما لا طاقة لها به والخروج بها عن الإطار الذي وضعه الله لها. وقد نجد في القرآن الكريم إشارات عابرة إلى بعض العلوم ولكنه لا يوجه إليها عنايته توجيها مباشرا، وإنما يكتفي بتشجيع المؤمنين على اكتساب العلوم والمعارف، وعلى الإستفادة من الكون الذي سخره الله لهم ليعمروه ويكشفوا أسراره. وعقب الدكتور محمد إبراهيم شريف على هذه المقولة ويتسائل: ألا يمكن أن يصحب هذا الغرض تضمين النص القرآني الحقيقة العلمية بوصفه نصا معجزا؟
وفيما يقولون إن المفسر العلمي يتطرف في تأويل الأيات فيفسد معناها ويوهم القارئ احتواء القرآن على علوم الأولين والأخرين، بل حتى العلوم التي ستهتدي إليها عقول البشر في المستقبل القريب والبعيد ثم يبني على هذا الوهم تأكيد الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.
وفيما يقوله هؤلاء إننا لا ننكر أن القرآن لا يمكن أن يعارض العلم...أما الذي ننكره فهو الضغط على الأيات القرآنية إلى درجة الشطط والإعتماد على قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيئ) لنخرف بما لا يعقل، ونزعم أن القرآن ليس كتاب علم فحسب بل هو مصدر لكل نظريات العلم الحديث.
وفيما يقول هؤلاء عن التفسير العلمي –خاصة الأيات الكونية- إنه دعوى لا دليل عليها ولا حاجة للمؤمنين بها وأن هذه الأيات يجب أن تفهم على ما فهمه المسلمون الأولون.
وتأخذ معارضة التفسير العلمي عند بعض هؤلاء شكل التعصب والقذف بالجهل وعدم الإيمان حيث تعقد الفصول لمناهضة الإتجاه العلمي وتنصب المحاكم لمحاكمة أصحابه والداعين إليه والداعين إليه وصلبهم على مشانق المنحرفين عنهم والمتلبسين بهم وهم منهم براء.
وتحت عنوان (التفسير العلمي بدعة حمقاء) يقول صاحب كتاب (الذكر الحكيم): (كنت أحسب أن أمر هذه البدعة لا يعني به أحد ولا يقام له وزن، حتى اعتنقها طبيب كبير، وقال بها قاض ممتاز ودافع عنها كيميائي معروف، وخيل إلى الناس أن مفكرين وعلماء من هذا الطراز إذا قالوا: إن علم الحديث موجود في القرآن فلابد أن يكون قولهم حق. فالكاتب يفترض -مع حسن الظن بأصحاب التفسير العلمي- أنه لم يحملهم عليه إلا رغبتهم في الدفاع عن التنزيل الحكيم، لما رأوا أن العلم الحديث بلغ من الرقى مبلغا لا ينكر، وخشوا أن يظن الناس أن هذا العلم خلف الأديان والكتب المنزلة لم يفتها ما أسفر عنه التفكير العلمي، وحسبوا أن مما يرفع قدر قدر التنزيل أن تستمد البراهين على صدقه من الحقائق العلمية الحديثة. وهذا التفكير –كما يقول- خطأ قام على وهم فاسد، فليس للكتب المنزلة صلة –هكذا- بالعلم الحديث، ولا يضيرها في شيئ أن تكون بمعزل عن هذه العلوم ولا ينقص من قدرها أن يبلغ العلم من الرقى ما يبلغه.
وينتقل الكاتب من الرفض والإعتراض والهجوم إلى بيان خطر التفسير العلمي ويتسائل: سيقال: وما ضرر ذلك على الدعوة إلى الإيمان بإعجاز القرآن؟ ثم يجيب بقوله: الواقع أنه يكفي في بيان فسادها أنها ليست حقيقة، وهذا وحده يقضي على ما يمكن أن يكون لها فائدة، ودعوى فائدة هذه البدعة في تقوية الإيمان بالقرآن دعوى سخيفة، والقرآن في غير حاجة إلى مثل هذه البراهين العقيمة... ووجه الخطر فيها أن أهل القرآن يظنون أصحابها علماء، وأهل العلم يظنونهم متفقهين في القرآن، والحقيقة أنهم لا يعرفون العلم ولا القرآن مهما يكن مقامهم عظيما.
ولكن علق الدكتور محمد إبراهيم شريف على الكاتب، حين يضرب الأمثلة على ما لا يصح القول به في القرآن من هذه البدعة يكشف مرة أخرى عن أن محل هجومه هم المنحرفون العصريون من أصحاب الأراء والأهواء والنظريات غير ثابتة التي يربطون النص القرآني بها. واعتبر الدكتور محمد إبراهيم شريف أن هؤلاء الدخلاء –في الحقيقة- هم سبب مناهضة التفسير العلمي وإصغاء الكثيرين أسماعهم لمعارضيه بما اندفعوا إليه من حب الإبتكار في تفسير الأيات والإسراع بربطها بمكتشف من العلوم الحديث، حيث ملؤوا الصحف بهرائهم وتمحلاتهم الكاذبة وادعائهم أن القرآن ألقى إليهم بأسراره فهم قد يرون أن يستنبطوا منه قضايا العلم الحديث وهم بذلك يخبطون خبط عشواء[51].
ونجد في عصرنا أبرز أنصار الإمام الشاطبي وهو الدكتور محمد حسين الذهبي صاحب التفسير والمفسون. وقال: أما أنا فاعتقادي أن الحق مع الشاطبي، لأن الأدلة التي ساقها لتصحيح مدعاه أدلة قوية، لا يعتريها الضعف، ولا يتطرق إليها الخلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه سديدة دامغة لا تثبت أمامها حججهم ولا يبقى معها مدعاهم. وهناك أمور أخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق مع الشاطبي ومن لف لفه، فمن ذلك ما يأتي:
أ‌.         الناحية اللغوية
إن بعض المعاني للكلمة الواحدة حادث باصطلاح أرباب الفنون، فهناك معان لغوية، وهناك معان شرعية، وهناك معان عرفية، وهذه المعاني كلها تقوم بلفظ واحد، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به وقت نزول القرآن نظرا لحدوثه وطروه على اللفظ، فهل يعقل بعد ذلك أن نتوسع هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدت باصطلاح حادث، ولم تعرف للعرب الذين نزل القرآن عليهم؟ وهل يعقل أن الله تعالى إنما أراد بهذه الألفاظ القرآنية هذه المعاني التي حدثت بعد نزول القرآن بأجيال؟.
ب‌.     الناحية البلاغية
فإذا نحن ذهبنا مذهب أرباب التفسير العلمي وقلنا بأن القرآن متضمن لكل العلوم، وألفاظه متحملة لهذه المعاني المستحدثة، لأوقعنا أنفسنا في ورطة لا خلاص لنا منها إلا بما يخدش بلاغة القرآن، أو يذهب بفطانة العرب، وذلك لأن من خوطبوا بالقرآن وقت نزوله إن كانوا يجهلون هذه المعاني، وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراعي حال المخاطب وهذا سلب لأهم خصائص القرآن الكريم، وإن كانوا يعرفون هذه المعاني فلما لم تظهر نهضة العرب العلمية من لدن نزول القرآن الذي حوى علوم الأولين والأخرين؟ ولم لم تقم نهضتهم على هذه الأيات الشارحة لمختلف العلوم وسائر الفنون؟... وهذا أيضا سلب لأهم خصائص العرب.
ت‌.     الناحية الإعتقادية
فإذا نحن ذهبنا مذهب من يحمل القرآن كل شيئ، وجعلناه مصدرا لجوامع الطب، وضوابط الفلك، ونظريات الهندسة، وقوانين الكيمياء، وما إلى ذلك من العلوم المختلفة، لكنا بذلك قد أوقعنا الشك في عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم، وذلك لأن قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات لا قرار لها ولا بقاء، فهل يعقل أن يكون القرآن محتملا لجميع هذه النظريات والقواعد العلمية على ما بينهما من التنافي والتضاد؟ وإذا كان معقولا، فهل يعقل أن يصدق المسلم بالقرآن بعد هذا، ويكون على يقين بأنه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟[52].

مناقشة أدلة الذهبي:
1.   إن من خصائص لغة القرآن أنها تتسم بالمرونة تناسب مع تفسير عقول جيل من الأجيال. وليس معنى هذا أنه يتعارض مع استخدام اللغة. قال شيخنا الدكتور نور الدين عتر أن القرآن في حديثه عن الكون جاء من حيث طريقته جامعا بين الإجمال والتفصيل، وفي هذا الحديث نجد التوافق بين القرآن والعلم قرنا فقرنا[53].
لقد عبر القرآن الكريم عن خلق الكون بأسلوب تفهمه كل الطبقات الثقافية، وترى فيه بغيتها، واطمئنانها النفسي ومع ذلك لا يتصادم مع ما تتواصل إليه أحدث الأبحاث والتجارب العلمية[54].
بالمثال يتضح المقال، لقد مثل الدكتور محمد شامة أن الله ذكر خلق السموات والأرض وما بينهما في ستتة أيام. وهو أمر يركن إليه من لا علم له بنظريات خلق الكون، لكنه أضاف إلى ذلك أن مفهوم (اليوم) ليس هو ما تعارف الناس عليهمن الفترة الزمنية التي تنحصر بين شروق الشمس إلى غروبها- أو على حد تفسير آخر بين غروب الشمس وغروبها في اليوم التالي- بل بين أن له معنى أخر، وهو الحقبة من الزمن التي يتجاوز طولها كل ما يمكن أن يخطر ببال الإنسان، ويتضح ذلك من قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة). ومن هنا فإن من ينظر في أيات الخلق في القرآن الكريم، عليه أن يتذكر أن أيام خلق الكون ليست كالأيام عند الناس، لأن المراد بها في التعبير القرآني المراحل، فمعنى خلق الكون في ستة أيام، أنه خلقها في ستة أحقاب، وذلك ما أشار إليه العلم الحديث بمراحل الخلق.
فالتعبير عن أطوار الخلق بالأيام إعجاز نفسي، له أهميته في تحقيق الهداية التي أنزل من أجلها القرآن، الا وهو صلاحية التعبير لأن يفهمه جميع الناس، وفي كل العصور، كل حسب معطياته الثقافية والحضارية، فلا يكون عجز طبقة أو جيل منهم عن فهمه حاجزا في طريق هداية الناس إلى اعتناق الإسلام، ومع هذا يتضمن كل ما يتوصل إليه العلم من نتائج. ولا يقدر على هذا إلا خالق البشر، فهو أعلم بما هو كائن وما سيكون[55].

2.   أما من ناحية البلاغية، فأرى أن القرآن قد أحاط القمة البلاغية حيث إنه تحدث حسب مقتضى حال المخاطبين، تجد الخطاب القرآني يناسب جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وثقافتهم العلمية ويرضي رغباتهم في كل عصر ومصر. وهذا أمر معروف لدى الجميع. إذا فلا داعي للقول بعدم بلاغة القرآن بمجرد اختلاف مدركات الناس في فهم القرآن. والحق أن القرآن للناس جميعا كل يأخذ من القرآن على حسب استعدادهم.
قال الشيخ الشعراوي : أن الأيات التي تتناول هذه الأشياء (قوانين الكون وحقائقه) مر الرسول صلى الله عليه وسلم مرورا وترك للعقل في كل جيل أن يأخذ قدر حجمه، والمعجزة هنا في القرآن أنه يعطي لكل عقل قدر حجمه ويعطي كل عقل ما يعجبه ويرضيه[56].
3.   أما من ناحية الإعتقادية، فأقول أن القرآن بهذه المعجزة المتجددة يزيد المؤمنين إيمانا وخشية ومعرفة بالله. قال تعالى في شأن العلماء: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به من ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى الله من عباده العلماء) (فاطر: 27-28) لقد خص الله سبحانه خشية العلماء منه بعد ذكر الأيات التي تشير إلى الإشارات الكونية. وكذلك هذه الإشارة العلمية من وسائل هداية غير المسلمين والملحدين حيث وجدوا الحقائق القرآنية ووجدوا الله من خلال أفعاله في مخلوقاته.
أما ما ذهب إليه الذهبي من جعل القرآن أمر مشكوك في صحته بسبب النظرية العلمية المتغيرة، فالأمر بين اثنين أولا إذا كانت النظرية العلمية هي المعول عليها والقرآن يتبع تلك النظرية فهذا أمر مسلم سيحدث ما حذره الذهبي، وثانيا أما إذا جعلنا القرآن كالأساس والنظرية تابعة للقرآن فلا. بل أقول مستحيل أن توجد النظرية العلمية الصحيحة التي تتعارض مع القرآن، لأن القرآن هو الحق، والحق لا يتعارض مع الحق، أما إذا حدث التعارض بينهما، فالخطأ على تلك النظرية لا على القرآن، لأن الباطل لا يمكن أن يجتمع مع الحق.

ب‌.     المجيزون للتفسير العلمي وأدلتهم
1.      من العلماء المتقدمين
من العلماء المتقديمن الذين يجيزون التفسير العلمي ويطبقونه في تفسيرهم  مثلا الإمام الغزالي (ت 505 هـ)[57]، والفخر الرازي (ت 606 هـ)[58]، وأبو الفضل المرسي، والسيوطي (ت 911 هـ)[59] ، البيضاوي (ت 691 هـ)[60]، والنيسابوري من علماء رأس المائة التاسعة[61]، الألوسي (ت 1270 هـ)[62]. وأخص الإمام الغزالي هنا كنموذج من العلماء المتقدمين في المبحث الآتي إن شاء الله.

الإمام الغزالي والتفسير العلمي
ومن عمدة التفسير العلمي من القدماء هو الإمام الغزالي، حيث قال الغزالي في إحياء علوم الدين أن العلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته: وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن[63].  وأكد ذلك الغزالي في كتابه جواهر القرآن، بعد ذكره العلوم، قال هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد[64].
ولخص الإمام الغزالي مجامع ما تنطوي عليه سور القرآن وأياتها إلى عشرة أنواع: ذكر الذات، ذكر الصفات، ذكر الأفعال، وذكر المعاد، وذكر الصراط المستقيم، أعني جانبي التزكية والتحلية، وذكر أحوال الأولياء، وذكر أحوال الأعداء، وذكر محاجة الكفار، وذكر حدود الأحكام. وانشعب من هذه العشرة العلوم، وقسم الإمام الغزالي علوم الدين إلى علوم الصدف والقشر وإلى علوم اللباب.
 أما علوم الصدف حسب مرتبته عند الغزالي ما يلي: علم مخارج الحروف، ثم علم لغة القرآن، ثم علم النحو وإعراب القرآن، ثم علم القراءات –لكنه من الزوائد المستغنى عنها دون اللغة والنحو فإنهما لا يستغنى عنهما-، ثم علم التفسير الظاهر. وليس قصد الغزالي عن هذا التقسيم أن أرباب هذه العلوم أرفع قدرا عن بعض، بل أكد الغزالي أن هؤلاء الطبقات إذا قاموا بشرط علومهم فحفظوها وأدوها على وجهها فيشكر الله سعيهم وينقي وجوههم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).                                                                                                        
وأما علوم اللباب فعلى طبقتين: الطبقة السفلى منهما هي معرفة قصص القرآن، ثم محاجة الكفار ومجادلتهم (علم الكلام)، علم الحدود (الفقه)، أصول الفقه. وأما الطبقة العليا أشرفها العلم بالله واليوم الأخر لأنه علم المقصد، ودونه العلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك، وهذا العلم فوق علم الفقه والكلام وما قبله لأنه علم طريق السلوك وذلك علم آلة السلوك وإصلاح منازله ودفع مفسداته كما يظهر، والعلم الأعلى والأشرف علم معرفة الله تعالى فإن سائر العلوم تراد له ومن أجله وهو لا يراد لغيره، وطريق التدريج فيه الترقي من الأفعال إلى الصفات، ثم من الصفات إلى الذات[65].
هذه هي العلوم الدينية التي يراها الغزالي أنها لا بد لها من أصل في القرآن الكريم حتى يتيسر سلوك طريق الله تعالى والسفر إليه، أما غيرها من العلوم الكثيرة من الطب والنجوم وهيئة العالم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضاءه وعلم السحر والطلمسات فهي علوم لا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد، فلذلك لم يذكره. وقال الغزالي أن وراء ما عدده علوم أخر يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها ولا حاجة إلى ذكرها، بل ظهر بالبصيرة الواضحة أن في الإمكان والقوة أصنافا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها، وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا إدراكها والإحاطة بها ويحظى بها بعض الملائكة المقربين. ثم عقب الغزالي أن هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد لقد ذكر الإمام الغزالي نماذجا من أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال، مثلا الشفاء والمرض كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم (وإذا مرضت فهو يشفين) وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه، ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان وقد قال تعالى (الشمس والقمر بحسبان) وقال (وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) وقال (وخسف القمر وجمع الشمس والقمر) وقال (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) وقال (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما  وولوج الليل في النهار وكيفية تكور أحدهما على الأخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله (ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك) إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها وهي من علوم الأولين والآخرين، وكذلك لا يعرف كمال معنى قوله (سويته ونفخت فيه من روحي) ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها[66].
هكذا أثبت الغزالي أن القرآن الكريم فيه علم الأولين والأخرين ببيان واضح جلي وكيف تفرع سائر العلوم من بحر القرآن، وصدق الله العظيم إذ يقول (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (الكهف: 109).

2.      من العلماء المتأخرين
محمد بن محمد الإسكندراني[67]، عبد الله باشا فكري[68]، عبد الرحمن الكواكبي[69]، الإمام محمد عبده (ت 1323 هـ)[70]، مصطفى صادق الرافعي (ت 1356 هـ)[71]، طنطاوي جوهري (ت 1358 هـ)[72]، بديع الزمن سعيد النورسي (ت 1380 هـ  / 1960 م)[73]، محمد الطاهر بن عاشور ( ت 1393 هـ)[74]، أما في القرن الخامس عشر الهجري إلى يومنا هذا لقد كثر التآليف من قبل العلماء لإبراز الإعجاز العلمي، منهم حنفي أحمد[75]، محمد جمال الفندي[76]، عبد الله شحاتة[77]، وغيرهم من العلماء.
إذن من الممكن أن نجعل التفسير العلمي في العصر الحديث إلى مرحلتين: الأولى مرحلة التأسيس والثانية مرحلة النمو.

مرحلة تأسيس التفسير العلمي في العصر الحديث
لقد شهد القرن الرابع عشر الهجري تجديدا واسعا في مجال الحياة والفكر الإسلامي على أيدي المصلحين نتيجة التخلف والركود والنوم العميق، تلك العاصفة التي أصابت الأمة الإسلامية منذ فترة طويلة وانتهت إلى سيطرة الأعداء في استعمار البلدان الإسلامية. وحاول المجددون لإيقاظ الأمة الإسلامية من سباتها وغفلتها إلى الصحوة والرشد وإعادة البناء بعد أن كان يريد أن ينقض. ومن أهم هذا التجديد هو التجديد في مجال تفسير كتاب الله الذي يمثل الروح الأساسي لهذه الأمة. 
والذي يقرأ كتب التفسير على اختلاف ألوانها لا يدخله شك في أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفاه هؤلاء المفسرون الأقدمون حقه من البحث والتحقيق، فالناحية اللغوية والناحية البلاغية، والناحية الأدبية، والناحية النحوية، والناحية الفقهية، والناحية الكونية والفلسفية، كل هذه النواحي وغيرها تناولها المفسرون الأول بتوسع ظاهر ملموس. لم يترك لمن جاء بعدهم –إلى ما قبل عصرنا بقليل- من عمل جديد، أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي ألفوها، اللهم إلا عملا ضئيلا لا يعدو أن يكون جمعا لأقوال المتقدمين، أو شرحا لبعضها، أو نقدا أو تفنيدا لما يعتوره الضعف منها، أو ترجيحا لرأي على رأي، مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود، خالية من التجديد والإبتكار[78].
في ظل هذه الظروف ظهر وجه جديد لتفسير كتاب الله وهو ما يسمى بالإتجاه العلمي، كأثر من النهضة العلمية الحديثة ومحاولة التوفيق بين النص القرآني مع ما وصل إليه العلم الحديث. وقد شهدت الدعوة إلى التفسير العلمي أعظم نصير له في شخص طنطاوي جوهري الذي أغرم بالعجائب الكونية وأعجب بالبدائع الطبيعية ونعى على السابقين من العلماء والمفسرين إعراضهم عن تلك المعاني ودراستهم السطحية والتكلفية للقرآن وعكوفهم على القشور والألفاظ[79].
وأنا أختار الشيخ طنطاوي جوهري في هذا الموضوع كنموذج من العلماء المتأخرين باعتباره رائدا في التفسير العلمي و لتأثيره للمفسرين العلميين بعده.

الشيخ طنطاوي جوهري والتفسير العلمي
ترجمته    
ولد الشيخ طنطاوي جوهري في قرية (كفر عوض الله حجازي) من أعمال مديرية الشرقية بالقرب من الآثار الفرعونية في (بوباستاس) جنوب شرق زقازيق في سنة 1287 ه/ 1862 م، وكان والده مشتغلا بالزراعة في هذه القرية. تلقى العلم في الأزهر وكان ذلك في عام 1877، ولقد حدثنا بحبه للطبيعة فقال: (لما كنت في الأزهر كنت أحس بميلي الشديد إلى الكواكب والنجوم، وكم ليلة قضيتها أحلق فيها معجبا بجمالها وأحسست في نفسي بحزن عميق لجهلي بهذه الأكوان...الخ) ومكث في الأزهر أربع سنوات، ثم انتقل إلى مدرسة (دار العلوم) عام 1889 وتخرج منها عام 1893. وعبر الشيخ عن أحاسيس وانطباعات في الفترة التي قضاها في دار العلوم: (اتصلت بدار العلوم فدرست فيها علم الفلك الحديث بعد ما درست القديم في الفلسفة، هنالك دهشت أعظم الدهش وقلت في نفسي: هذه فرصة سانحة، فهاهم أولاء علماء الأمم قديما وحديثا نظروا فيما كنت حائرا فيه في حقلنا). وبعد تخرجه من دار العلوم، عين مدرسا للتفسير والحديث سنة 1911 بمدرسة دار العلوم. وفي عام 1919 وفي أثناء المظاهرات التي قامت ضد الإنجليز قام (البوليس) بتفتيش مسكن الشيخ طنطاوي (بشارع زين العابدين رقم 8) لما عرف عنه من وطنيته وتحمس لقوميته. وفي ذلك الحين أخذ الشيخ طنطاوي على نفسه عهدا وقال: (إنني عاهدت ربي أن أعلم الناس ما علمت وأني إذا وقفت على حقيقة نشرتها بين العالم الإسلامي، وإن لم أنشر ذلك بين الملأ كنت كافرا بنعمة ربي ناقضا لعهده). وبدأ يحقق ما قال، وقد ترك لنا أكثر من ثلاثين كتابا. وكان أخر مؤلفات الشيخ هو الجواهر في تفسير القرآن في 25 مجلدا كبيرا ثم كتب المجلد السادس والعشرين لاستدراك ما فات، وذلك من عام 1922 حتى عام 1935. ثم توفي الشيخ في صباح يوم الجمعة 3 من ذي الحجة سنة 1358 ه/ 12 يناير 1940 م[80].

منهجه في التفسير
اتفق الباحثون على أن من أكثر من ركّز على كونيات القرآن في العصر الحديث هو الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره (الجواهر). فلا تكاد تجد كل باحث في اتجاهات التفسير في العصر الحديث إلا ويذكر هذا الشيخ العظيم واتجاهه العلمي. ويرى البعض أنه تأثر بمن سبقه من العلماء المتقدمين أمثال الإمام الغزالي في (جواهر القرآن) وكذلك الفخر الرازي صاحب تفسير (مفاتيح الغيب) والبيضاوي صاحب تفسير (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) ونظام الدين القمي النيسابوري صاحب تفسير (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) والإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي صاحب (البرهان في علوم القرآن) وجلال الدين السيوطي صاحب (الإتقان في علوم القرآن) و (الإكليل في استنباط التنزيل) و(معترك الأقران في إعجاز القرآن) والراغب الأصفهاني وأبي بكر ابن العربي...[81]

البواعث لتأليف هذا التفسير
وفي مقدمة تفسيره يتحدث عن البواعيث التي دفعته إلى تأليف هذا التفسير ويقول: أما بعد فإني خلقت مغرما بالعجائب الكونية، معجبا بالبدائع الطبيعية، مشوقا إلى ما في السماء من جمال، وما في الأرض من بهاء وكمال، أيات بينات، وغرائب باهرات، ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية ألفيت أكثر العقلاء وبعض جلة العلماء عن تلك المعاني معرضين وعن التفرج بها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم، وما أودعت من الغرائب[82]، فأخذت أؤلف لذلك شتى: كنظام العالم والأمم، وجواهر العلوم، والتاج المرصع، وجمال العالم، والنظام والإسلام، ونهضة الأمة وحياتها، وغير ذلك من الرسائل والكتب، ومزجت فيها الأيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعلت آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع، وحكم الخلق...
وكان مسلكه في هذا عن طريق النظر في آيات الكتاب الكريم والتدبر في معانيه غلى أساس ما كان يتلقاه من إلهام، وما كان يراه بعين بصيرته، فهو يصرح بأن هذا التفسير نفحة ربانية، وإشارة قدسية، وبشارة رمزية، أمر به بطريق الإلهام، وأيقن أن له شأنا سيعرفه الخلق، وسيكون من أهم أسباب رقى المستضعفين في الأرض[83].           

مسلك المؤلف في التفسير
ولقد وضع المؤلف في تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام والأخلاق وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق، مما يشوق المسلمين والمسلمات إلى الوقوف على حقائق معنى الأيات البينات في الحيوان والنبات والأرض والسموات[84]. وكثيرا ما نجده يخاطب الأمة الإسلامية وعلماءها خطابا يدل على الإشفاق والغيرة والإخلاص. وإننا نراه يلوم المسلمين لأنهم اهتموا واعتنوا بالفقه واختلاف الفقهاء وأيات الأحكام قليلة جدا، ولم يهتموا بالعلوم والأيات الدالة عليها كثيرة جدا في القرآن، فهو يقول: (لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس في القرآن إلا أيات قلائل لا تصل إلى مائة وخمسين أية؟) ويقول: (لماذا كثر التأليف في علم الفقه وقل جدا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة، بل هي تبلغ سبعمائة وخمسين أية صريحة؟ وهناك أيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علن أياته قليلة ويجهلون علما آياته كثيرة جدا؟)[85].
وإذا نحن رجعنا لرأي الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا اللون من التفسير نراه يقول، وفيه تأييد لمنهج الشيخ طنطاوي جوهري: للتفسير مراتب، أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر، ويجذبها إلى الخير. وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكل أحد (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)[86]. وأما المرتبة العليا، فهي لا تتم إلا بأمور: -ومن بين الأمور الذي ذكره الإمام (علم أحوال البشر...أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) (البقرة: 213) الأية، وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا، وما معنى تلك الوحدة التي كانوا عليها، وهل كانت نافعة أم ضارة، وماذا كان من آثار بعثة النبيين فيهم؟. أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن أياته في السموات والأرض و في الآفاق والأنفس. وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيئ علما وأمرنا بالنظر والتفكر والسير في الأرض، لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا. ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده، لا بما حواه من علم وحكمة[87].

طريقة المؤلف في تفسيره
أما منهج المؤلف وطريقته التي سلكها فيه، فنجد أن المؤلف –رحمه الله- يفسر الأية القرآنية تفسيرا لفظيا مختصرا، لا يكاد يخرج عما في كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذي يسمسه لفظيا، ويدخل في أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو لطائف وجواهر...هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب في العصر الحديث، أتى بها المؤلف، لبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة[88]. ولذلك استعان الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره للقرآن بصفحات كاملة من صور التشريح والحيوانات والنباتات والخرائط، كل ذلك ليثبت أن القرآن يدعم الروح العلمية ويؤكدها، ويدعو إليها دعوة عميقة وصريحة. ويقول الشيخ طنطاوي جوهري في مقال له مبررا اتجاهه في النظر إلى القرآن: (إن قراءة التشريح والطبيعة والكيمياء وسائر العلوم العصرية ودراسة الحيوان والنبات والإنسان أجل عبادة لولا قصور علماء القرن الماضية ما ضاع المسلمون وما أحاطت بهم عاديات الدهر، ولا أصابتهم كوارث الحدثان!). إن الحافز الأساسي للشيخ طنطاوي جوهري في هذا التفسير هو إزالة أي وهم بأن هناك تناقضا بين العلم والقرآن، أو أن القرآن يمكن أن يبرر للمسلمين تخلفهم العلمي أو قصورهم عن اللحاق بأحدث النظريات العلمية والمساهمة في الكشف والإختراع والعمل على الإضافة إلى ما وصلت إليه البشرية في هذا المجال. وتفسير الشيخ طنطاوي يفيض بالحماس للعلم الحديث، بل يجعل طلب العلوم العصرية واجبا دينيا أساسا في حياة المسلمين[89].

نماذج من هذا التفسير
هناك كثير من النماذج العلمية في هذا التفسير لكني أخذ بعض ما ذكره الذهبي في (التفسير والمفسرون) على سبيل المثال، فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الأية 61 من سورة البقرة: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) الأية، نجده يقول: (الفوائد الطبية في هذه الأية) ثم يأخذ في بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوربا في الطب، ثم يقول: (أوليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن؟ أوليس قوله: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) رمزا لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى وهما الطعامان الخفيفان الذان لا مرض يتبعهما، مع الهوى النقي والحياة الحرة، أفضل، من حياة شقية في المدن بأكل التوابل واللحم والإكثار من ألوان الطعام مع اللذة وجور الحكام والجبن، وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم على حين غفلة وأنتم لا تشعرون، بمثل هذا تفسر هذه الأية بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله...)
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران (الم) نجد يعقد بحثا طويلا عنوانه (الأسرار الكيمائية، في الحروف الهجائية، للأمم الإسلامية، في أوائل السور القرآنية) وفيه يقول: (أنظر رعاك الله، تأمل... يقول الله: أ، ل، م- طس- حم- وهكذا يقول لنا: أيها الناس، إن الحروف الهجائية، إليها تحلل الكلمات اللغوية، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللغة العربية أم اللغات الأعجمية، شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها، وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون.
ولا جرم أن العلوم قسمان، لغوية وغير لغوية، فالعلوم اللغوية مقدمة في التعليم، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية. فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيره لا تعرف حقائق إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية التي لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا العلوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبة إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم.
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الأيتين (5،6) من سورة طه: (الرحمن على العرش استوى. له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) نجده يقول: (قوله: (وما بينهما) دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى (الآثار العلوية) وهو من علوم الطبيعة قديما وحديثا، وقوله (وما تحت الثرى) يشير لعلمين لم يعرفا إلا في زمننا، وهو علم طبقات الأرض، المتقدم مرارا في هذا التفسير، وعلم الآثار، المتقدم بعضه في سورة يونس...[90]

مرحلة النمو للتفسير العلمي
وبعد قرن من فتح باب التفسير العلمي، وبتطور ملحوظ في مجال الإكتشافات العلمية، ازدهر هذا النوع من التفسير ولقي رواجا كثيرا من الجمهور وقام العلماء قي القرن الخامس عشر بالتأليف في الإعجاز العلمي وتفسير الأيات الكونية ودراساتها درسا عميقا ممنهجا. وقد كثرت التآليف والتصانيف في مسائل إعجاز القرآن، خصوصا الجوانب العلمية والطبيعية والكونية والطبية فيه. منهم حنفي أحمد (التفسير العلمي للأيات الكونية) محمد أحمد الغمراوي (الإسلام في عصر العلم) محمد جمال الدين الفندي (الله والكون) محمد إبراهيم شريف (هداية القرآن في الآفاق والأنفس) توفيق محمد عز الدين (دليل الأنفس بين القرآن والعلوم الحديث) زغلول النجار (تفسير الأيات الكونية)، وأورد الدكتور كارم السيد غنيم الأسماء التي تسهم في هذا الحقل الخصب، ووصل إلى أكثر من ستين مؤلفا[91].
إلا أن من عيوب هذا التيار أن بعضا ممن تصدى للتفسير العلمي يتسم بغموض المنهج المتبع، وعدم مراعاة شروط المفسر التي رسمها العلماء، والتسرع في الأخذ بالنظرية العلمية المتغيرة التي مازال في قيد الفحص، وليّ أعناق الأية لتتناسب مع تلك النظرية، وتأويل الأية التي لا تحتاج إلى تأويل ومجرد عن القرينة، وتحميل الأية ما لا تحتمله، وما دفعهم إلى ذلك إلا التحمس لإبراز سبق القرآن على النظرية العلمية. الأمر الذي يبرر إنكار المنكرين لهذا النوع من التفسير.
ويرى أصحاب هذا الموقف أن الإشارات الكونية في القرآن الكريم قد قصدت لذاتها أي لدلالاتها العلمية المحددة، مع التسليم بوجوب استخلاص الحكمة والعبرة منها والوصول إلى الهداية عن طريقها، وانطلاقا من ذلك فقد قام أصحاب هذا الموقف بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله وتصنيفها حسب مختلف التصانيف المعروفة في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية، ثم اندفعوا في حماسهم لهذا الإتجاه إلى المناداة بأن القرآن الكريم يشمل جميع العلوم والمعارف. ولابد لحسن فهم دلالات الإشارات الكونية في كتاب الله من تفسيرها على ضوء اصطلاحات تلك العلوم ثم زاد البعض بالتأكيد على أن جميع حقائق العلوم البحتة والتطبيقية موجودة في القرآن الكريم استنادا إلى قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيئ) وقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيئ)، وفند ذلك الدكتور زغلول النجار ثم قال: وربما كان هذا الموقف الموسع من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تحفظ المتحفظين من الخوض في تفسير الأيات الكونية الواردة في كتاب الله على أساس من العلوم البحتة والتطبيقية، أو التعرض لإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها، لأن هذا التوسع قد أدى إلى شيئ من التكلف في الإستنتاج وإلى محاولة ليّ أعناق الأيات للوصول إلى الإستنتاج المطلوب وهو أمر مستهجن مرفوض في التعامل مع القرآن الكريم[92].   
فمثلا: إن الإنسان إذا ركب الفضاء وراح يتجول في ربوعه ظهر من يقول بأن هذا المركب هو المقصود بالدابة التي تخرج لتكلم الناس إشارة إلى الأية الكريمة (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بأياتنا لا يوقنون) ثم قال الأخر: بل هذا تفسير قول الله (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) وإن هذا السلطان هو العلم. ولقد وقع الدكتور أحمد العمري على رأي غريب للأستاذ أحمد محمد سليمان في كتابه (القرآن والعلم) وهو الرأي الخاص بوصول الإنسان إلى القمر، -وكان ذلك قبل وصول الإنسان في رحلته الفضائية إلى القمر- يحاول أحمد سليمان أن يعرض معنى النص القرآني (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان. فبأي ألآء ربكما تكذبان. يرسل عليكما شواذ من نار ونحاس فلا تنتصران) لقد شرح أحمد سليمان الصعاب التي تكتنف رحلة الإنسان إلى القمر والمشكلات التي تعترض نزوله إلى سطح هذا التابع الأرضي، ثم يقول: ولكن بقيت المشكلة الكبرى مشكلة الخروج من هذه المركبة المملوءة بالعديد من الأجهزة التي أعدها العلم للتغلب على عقبات طريق الفضاء، كيف الخروج؟ أيخرج ليكون مصيره الهلاك المحتوم؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام، ولن يكون لها من جواب من غير ما نبأنا به القرآن... أما جواب القرآن كما فهمه أحمد سليمان فهو أن السفر إلى القمر معناه الذهاب بلا عودة نظرا لملء هذا الطريق بالأشعة الكونية ونظرا للمجالات المغناطيسية وغير ذلك. فإذا صعد الإنسان ووصل إلى القمر ونزل على سطحه وأخذ من تربته عينات، وهبط بها إلى الأرض وقام بتحليلها، فماذا عساه –أي أحمد سليمان- يقول إذا؟
ومثلا: رأي صاحب كتاب (القرآن...محاولة لفهم عصري) في خلق آدم: قرر القرآن أن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون ومن صلصال، ومع أن المؤلف يوجب على نفسه الإلتزام بالنص القرآني فإنه يخالفه أشد المخالفة في صفحة رقم (52) من كتابه-طبعة القاهرة- إذ يقول: وفي هذه الأية (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية، والزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا، (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) وفي مكان أخر (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) ثم يقول: قال المؤلف: (خلقناكم ثم صورناكم) ثم اكتملت السورة بتخليق آدم (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم) فمعنى هذا أن آدم جاء عبر مراحل من التخليق والتصوير والتسوية، استغرقت ملايين السنين بزمننا، وأياما بزمان الله الأبدي.
وقال في قول الله (وقد خلقكم أطوارا) معناها أنه كانت قبل آدم صور صنوف من الخلائق جاء هو ذروة لها (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيأ مذكورا) إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيأ مذكورا. ثم قال في صفحة رقم (53)-من نفس الطبعة- : وأعجبني في كتاب للمفكر الإسلامي محمود طه بعنوان (رسالة صلاة) تعبير جميل يقول فيه (إن الله استل أدم استلالا من الماء والطين (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) إنه الإنبثاق من الطين درجة درجة وخطوة خطوة، من الأميبا إلى الأسفنج إلى الحيوانات الرخوة والحيوانات القشرية إلى الفقريات إلى الأسماك إلى الزواحف إلى الطيور إلى الثدييات إلى أعلى مرتبة آدمية بفضل الله وهديه).
ومن الملاحظ أن مؤلف الكتاب –محل النظر- قد أعجبه رأي داروين (Darwin) ونظريته في نشوء الخلق، هذه النظرية التي كثر ناقدوها قديما وحديثا حتى لأضحى شبه إجماع من العلماء الأفذاذ على تصدع هذه النظرية[93].   

التيار الوسطي بين كلا المذهبين
من الطبيعي أن يكون لشيئ جديد من يوافقه ومن يعارضه لأن الناس أعداء ما جهلوا كما يقولون. فالتفسير العلمي في أول ظهوره بشكل هائل في مطلع القرن الرابع عشر الهجري يثير جدلا واسعا بين العلماء في عصرهم بين المؤيدين له -لأنهم يرون بضرورة فهم الأيات الكونية بالإكتشافات العلمية ويرون ذلك من أمر القرآن للمسلمين-، وبين المانعين له -لأنهم يرون أن هذا الإتجاه سيؤدي إلى التشكيك في القرآن والمساس بقداسة هذا الكتاب الكريم- نظرا لتغير النظريات العلمية بتغير الزمان. ولكن بين هذا وذاك، لما استقرت الحقائق وتبين الرشد من الغي ظهر التيار الوسطي بينهما -في القرن بعده- لفهم القضية في نصابها و يصحح ما صح عند التيارين ويفند ما وقع من الخطأ من الجانبين. ومن رجال هذا التيار -على سبيل المثال لا الحصر- الشيخ الشعراوي[94]، محمد عبد الله دراز[95]، محمد أبو زهرة[96]، عبد المجيد الزنداني[97]، محمد الغمراوي[98]، يوسف القرضاوي[99]، زغلول النجار[100]، كارم السيد غنيم[101].
هذا التيار الوسطي يتسم بوضع كيفية التعامل مع النظرية العلمية من الضوابط التفسيرية الصحيحة في التفسير والتثبت أمام النظرية العلمية وعدم التكلف في التعامل معها وعدم تحميل الأية ما لا تحمله وعدم تأويل ما لا يجوز تأويله.
وعلى الرغم من استنكار أعداد من علماء التفسير لهذا المنهج العلمي قديما وحديثا، فإن عددا كبيرا من علماء المسلمين ظل مؤمنا بأن الإشارات الكونية في كتاب الله –أي الأيات المتعلقة ببعض أشياء هذا الكون أو ببعض ظواهره على إجمالها وتناثرها بين آيات الكتاب المجيد- تبقى بيانا من الله خالق الكون ومبدع الوجود، ومن ثم فهي حق مطلق وصورة من صور الإعجاز في كتاب الله[102]
وبعد أن أكثر الناس في تأليف هذا النوع من التفسير العلمي وأقبل كثير من العلماء للتصدي لهذا الصنيع، حاول العلماء أن يضعوا المناهج والضوابط والمعايير للتفسير العلمي حتى ينتظم التفسير ولا يحمل الآيات ما لا تحتمله –كما حذر منه المانعون-، ومع ذلك يفتح المجال العلمي للغوص فيه –كما أراده المجيزون-.  وأرى أن الضوابط بشكل جامع مانع هي التي رسمها د. زغلول النجار (رئيس لجنة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر) حيث جمع فيه ضوابط المفسر التي وضعها العلماء القدماء مع إضافة الضوابط اللازمة الخاصة في التعامل مع الأية الكونية. ويرى زغلول النجار بضرورة الإلتزام بعدم توظيف شيئ في هذا المجال غير الحقاق القطعية الثابتة، باستثناء أيات الخلق بأبعاده الثلاثة: خلق الكون، وخلق الحياة، وخلق الإنسان. وذلك لأن عملية الخلق عملية غيبية غيبة مطلقة، ولذلك لا تخضع للإدراك المباشر من الإنسان، وفي ذالك يقول الحق سبحانه وتعالى: (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا). أما باقي الأيات الكونية الكريمة التي تعرض لها القرآن الكريم –وأغلبها من الأيات الوصفية- فلا يجوز أن يوظف في الإستشهاد على سبقها العلمي الحقائق القطعية الثابتة التي لا رجعة فيها. وذكر عشرين نقطة من الضوابط المنهجية:
1.   حسن فهم النص القرآني الكريم وفق دلالات الألفاظ في اللغة العربية، ووفق قواعد تلك اللغة وأساليب التعبير فيها، وذلك لأن القرآن الكريم أنزل بلسان عربي مبين، على ألا يخرج الدارس باللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية، وعند الضرورة القصوى، ومن هنا فلا يمكن إثبات الإعجاز العلمي بتأويل النص القرآني.
2.   فهم أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ –إن وجدا- وفهم الفرق بين العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل، من أيات هذا الكتاب الحكيم.
3.     فهم المأثور من تفسير المصطفى صلى الله عليه وسلم والرجوع إلى أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى الزمن الحاضر.
4.     جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالأيات القرآنية الكريمة إن وجدت.
5.   جمع النصوص القرآنية المتعلقة بالموضوع الواحد ورد بعضها إلى بعض، بمعنى فهم دلالة كل منها في ضوء الأخر، لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، كما يفسره الصحيح من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان من الواجب توظيف الصحيح من الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بموضوع الأية المتعامل معها كلما توافر ذلك.
6.   مراعاة السياق القرآني للأية المتعلقة بإحدى القضايا الكونية دون اجتزاء للنص عما قبله وعما بعده، مع التسليم بأن من طبيعة القرآن الكريم إيراد العديد من الحقائق المتتابعة والتي قد لا تكون بالضرورة مرتبطة ببعضها البعض كما هو الحال في أيات القسم المتعدد بأكثر من أمر من الأمور.
7.   مراعاة قاعدة: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والإقتصار على القضية الواحدة في المقام الواحد دون تكديس للأيات المستشهد بها حتى يتضح جانب الإعجاز العلمي في كل منها.
8.     عدم التكلف أو محاولة ليّ أعناق الأيات من أجل موافقتها للحقيقة العلمية، وذلك لأن القرآن الكريم أعز علينا وأكرم من ذلك، لأنه كلام الله الخالق، وعلم الخالق بخلقه هو الحق، المطلق، الكامل، الشامل، المحيط بكل علم أخر، وهو العلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
9.   الحرص على عدم الدخول في التفاصيل العلمية الدقيقة التي لا تخدم قضية الإعجاز العلمي للأية أو الأيات القرآنية الكريمةمن مثل المعادلات الرياضية المعقدة، والرموز الكيميائية الدقيقة إلا في أضيق الحدود اللازمة لإثبات وجه الإعجاز.
10. عدم الخوض في القضايا الغيبية غيبة مطلقة كالذات الإلهية والروح، والملائكة، والجن، وحياة البرزخ، وحساب القبر، وموعد قيام الساعة، والبعث والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار وغيرها، والتسليم بالنصوص الواردة فيها تسليما كاملا انطلاقا من الإيمان بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقينا راسخا بعجز الإنسان عن الوصول إلى مثل هذه الغيبيات المطلقة.
11. التأكيد على أن الأخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا مغايرة كاملة، وأنها لا تحتاج هذه السنن الدنيوية الرتيبة، فهي كما وصفها ربنا سبحانه وتعالى أمر فجائي منه ب(كن فيكون)، وصدق الله العظيم إذ يقول: (يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماء والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وعلى الرغم من ذلك فإن الله سبحانه وتعالى من رحمته بنا قد أبقى لنا في صخور الأرض، وفي صفحة السماء أعدادا كثيرة من الشواهد الحسية التي تقطع بضرورة فناء الكون وبحتمية الأخرة، وأن الإشارة إلى تلك الشواهد الكونية لا يمكن أن تفسر بمحاولة التعرف على موعد قيام الساعة، لأن وقت الساعة من الغيبيات المطلقة التي لا يعلمها ألا الله، ولأن الأخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا تماما وأنها لن تتم بالسنن الكونية المشاهدة في هذه الحياة.
12. توظيف الحقائق العلمية القاطعة في الإستشهاد على الإعجاز العلمي للأية أو الأيات القرآنية الواردة في الموضوع الواحد أو في عدد من الموضوعات المتكاملة، وذلك في جميع الأيات الكونية الواردة في كتاب الله، فيما عدا قضايا الخلق والإفناء والبعث والتي يمكن فيها توظيف الأية أو الأيات القرآنية الكريمة أو الحديث النبوي الشريف المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإرتقاء بإحدى النظرية المطروحة إلى مقام الحقيقة مع التأكيد على أن الحقيقة العلمية لا تبطل مع الزمن، ولكنها قد تزداد تفصيلا وتوضيحا باجتهاد العلماء جيلا بعد جيل، وأن المعرفة العلمية إذا وصلت إلى مستوى الحقيقة أو القانون فهي لا تتغير ولكنها قد تزداد إيضاحا مع الزمن، وذلك لأن حقائق العلوم المكتسبة جزئية، وقوانينها كذلك جزئية، لأنها تعبر عن جزئية محددة. ولذلك فإن لها طبيعة تراكمية، فمن طبيعة العلوم المكتسبة أنها تنمو نموا مطردا مع استمرار مجاهدة العلماء في توضيح ما سبقت معرفته من حقائق دون إلغائه.
13. ضرورة التمييز بين المحقق لدلالة النص القرآني والناقل له مع مراعاة التخصص الدقيق في مراحل إثبات وجه الإعجاز العلمي في الأية القرآنية الكريمة (التحقيق العلمي)، لأن هذا مجال تخصصي في أعلى مراحل التخصص لا يجوز أن يخوض فيه كل خائض، كما لا يمكن لفرد واحد أن يغطي كل جوانب الإعجاز العلمي في أكثر من ألف أية قرآنية صريحة بالإضافة إلى أيات أخرى عديدة تقترب دلالتها من الصراحة، خاصة أن هذه الأيات تغطي مساحة هائلة من العلوم المكتسبة تمتد من علم الأجنة إلى علم الفلك وما بينهما من مختلف مجالات العلوم والمعارف الإنسانية، ومن هنا كان من الواجب رد كل قضية إلى محققها من المتخصصين بوضوح وإثبات كاملين.
14. التأكيد على أن ما توصل إليه المحقق العلمي في فهم دلالة الأية الكريمة ليس منتهى الفهم لها، لأن القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد.
15. اليقين بأن النص القرآني الكريم قد ينطبق على حقيقة علمية ثابتة، ولكن ذلك لا ينفي مجازا مقصودا، كما أن الأية القرآنية الكريمة قد تأتي في مقام التشبيه أو المجاز وتبقى صياغة الأية دقيقة دقة مطلقة من الناحية العلمية وإن لم تكن تلك الناحية مقصودة لذاتها، لأن كلام الله الخالق هو الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.
16. الأخذ في الإعتبار إمكانية الإنطلاق من الأية القرآنية الكريمة للوصول إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلم المكتسب إلى شيئ منها بعد، وذلك انطلاقا من الإيمان الكامل بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي حفظه لنا بطلاقة قدرته على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية في صفائه الرباني وإشراقاته النورانية، وتعهد سبحانه وتعالى بهذا الحفظ تعهدا مطلقا غير مقيد بزمان، وعلى ذلك فإن القرآن الكريم كله حق مطلق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه. ولو وعى المسلمون هذه الحقيقة لسبقوا غيرهم من الأمم في الوصول إلى العديد من حقائق الوجود بالرغم من تخلف المسلمين المعاصر فإن الباب لا يزال مفتوحا أمامهم يتسابق إليه المتسابقون من أهل العلم في كل مجال.
17. عدم التقليل من جهود العلماء السابقين في محاولتهم المخلصة لفهم دلالة تلك الأيات الكونية في حدود المعلومات التي كانت متاحة لهم في زمنهم، وذلك لأن الأية الكونية الواردة في كتاب الله تتسع دلالتها مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد حتى يظل القرآن الكريم مهيمنا على المعارف الإنسانية مهما اتسعت دوائرها، وهذا من جوانب الإعجاز في كتاب الله.
18. ضرورة التفريق بين قضيتي (الإعجاز العلمي) و (التفسير العلمي) للقرآن الكريم، (فالإعجاز العلمي) يقصد به إثبات سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون. وفي زمن لم يكن لأي من البشر إمكانية الوصول إلى تلك الحقيقة عن طريق العلوم المكتسبة أبدا. وأما (التفسير) فهو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الأية القرآنية إن أصاب فيها المفسر فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، والمعول عليه في ذلك هو نيته. وهنا يجب التأكيد على أن الخطأ في التفسير ينسحب على المفسر، ولا يمس جلال القرآن الكريم. وانطلاقا من ذلك فلا بد من الحرص على توظيف الحقائق العلمية القاطعة والتي لا رجعة فيها في كل من القضيتين. ولكن لما كانت العلوم المكتسبة لم تصل بعد إلى الحقيقة في كثير من الأمور، فإني لا أرى حرجا من توظيف النظريات السائدة، المقبولة، المنطقية في التفسير العلمي للقرآن الكريم. أما الإعجاز العلمي لهذا الكتاب العزيز، فلا يجوز أن يوظف فيه إلا القطعي الثابت من الحقائق العلمية التي لا رجعة فيها وذلك في جميع القضايا الوصفية. أما القضايا المتعلقة بالخلق والإفناء والبعث لكل من الكون والحياة والإنسان فبما أنها لا تخضع لإدراكنا المباشر، فيجتهد العلماء في وضع عدد من النظريات لتفسيرها، وتتعدد النظريات بتعدد خلفية واضعيها، ويبقى للمسلم نور من الله تعالى في أية قرآنية كريمة أو في حديث نبوي مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يعين العالم المسلم على الإرتقاء بإحدى هذه النظريات إلى مقام الحقيقة –لا لأن العلوم المكتسبة قد وصلت فيها إلى الحقيقة- ولكن لمجرد وجود إشارة لها في كتاب الله أو في أقوال خاتم أنبيائه ورسله –صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
19. اليقين في صحة كل ما جاء بالقرآن المجيد، لأنه كلام الله الخالق المحفوظ بحفظ الله على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية وإلى أن يشاء الله،  والمحفوظ في نفس لغة وحيه –اللغة العربية- فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى ذلك فلا يمكن لحقيقة الكونية أن تصطدم بنص قرآني أبدا، لأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، والكون صنعته وإبداعه وخلقه، ولكن إذا بدا شيئ من ذلك فلا بد من وجود خلل ما، إما في صياغة الحقيقة العلمية، أو في فهم الدارسين للنص القرآني الكريم.
20.  يجب تحري الدقة المتناهية في التعامل مع كتاب الله، وإخلاص النية في ذلك والتجرد له من كل غاية شخصية أو مكاسب مادية، كما يجب على المشتغلين بدراسة القرآن الكريم أن يتذكروا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)[103].
ومن مبررات اهتمامهم بالإشارات الكونية ما يلي:
  1. إن القرآن الكريم نزل لنا لنفهمه، والأيات الكونية لا تفهم فهما كاملا في إطار اللغة وحدها، والمعرفة كل يتجزأ.
  2. إن الإسلام والمسلمين يتعرضان اليوم لهجوم ظالم في جميع وسائل الإعلام العالمية والمحلية بسبب إنكار غير المسلمين لنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وإنكارهم الوحي بالقرآن الكريم، والإشارات الكونية خير دليل لأهل عصرنا –عصر العلوم والتقنيات المتقدمة- على حجية ذلك، وباللغة التي يفهمونها.
  3. إننا قصرنا في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم تقصيرا كبيرا، ولذلك وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تكتل أهل الباطل علينا، وتآمرهم على ديننا ومقدساتنا وأعراضنا وأموالنا وأراضينا، وخير وسيلة لتبليغ هؤلاء القوم اليوم فضل الإسلام العظيم على غيره من الأديان وفضل القرآن الكريم على غيره من الكتب- هو ما ورد من حقائق علمية راسخة في كل من كتاب الله سبحانه وتعالى- وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن العلم قد أصبح الوسيلة المقنعة لأهل عصرنا.
  4. إن العالم قد أصبح قرية كبيرة تلتقي فيها كل الثقافات، وثقافة عصرنا الراهن ترتكز على العلوم البحتة والتطبيقية وما تنتجه من تقنيات مختلفة ولذلك فإن إثبات سبق كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بالإشارة إلى العديد من حقائق الكون هو أنجح الوسائل لإقناع أهل عصرنا بصدق القرآن الكريم وبصدق نبوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
  5. إن المؤامرة الصهيونية/ الصليبية الدولية على الإسلام والمسلمين قد أسقطت من أيدينا كل سلاح نستطيع الدفاع به عن أنفسنا وأراضينا وعن ديننا ومقدساتنا وأعراضنا وكرامتنا، ولكن على الرغم من ذلك فقد بقي بأيدينا سلاح الدعوة إلى الله على بصيرة بلغة العصر، ومنه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة، والذي لو أحسنّا توظيفه في الدعوة إلى دين الله لفتح الله تعالى علينا الدنيا من أطرافها. والتجارب المحدودة في هذا المجال تثبت جدوى ذلك وأهميته[104].


  1. نماذج من الإعجاز العلمي والإشارات العلمية في القرأن
ذكر دكتور زغلول النجار نماذج من الحقائق العلمية والتي سبق القرآن الكريم بها كل المعارف البشرية، وأختار بعضا منها على سبيل المثال:
1.      حقيقة توسع الكون أي أن من من صفات كوننا أنه دائم الإتساع إلى نهاية لا يعلمها إلا الله تعالى. قال تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) (الذاريات: 47).
2.   حقيقة أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقهما الله بقدرته، وأنه تعالى قد جعل من الماء كل شيئ حي. قال تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيئ حي أفلا يؤمنون) (الأنبياء: 30).
3.      تأكيد أن السموات مرفوعة بقدرة الله تعالى بغير عمد مرئية، وقد يكون في ذلك إشارة إلى قوى الجاذبية الحاكمة للأجرام المرئية في السماء الدنيا كما يتصورها علماء الفلك و الفيزياء الفلكية. قال تعالى: (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها...) (الرعد: 2).
4.   أيات قرآنية تتحدث عن الجبال، منها ما يصفها بأنها أوتاد، وبذلك يصف كلا من الشكل الخارجي الذي على ضخامته يمثل الجزء الأصغر من كتلة وحجم الجبل، والإمتداد الداخالي الذي يشكل غالبية جسم الجبل، كما يصف وظيفته الأساسية في تثبيت الغلاف الصخري للأرض وفي تحقيق اتزان دورانها حول محورها، وتتأكد هذه الوظيفة في اثنتين وعشرين آية قرآنية أخرى، وردت بها كذلك إشارات إلى عدد من الوظائف والصفات الإضافية للجبال من انتصابها فوق سطح الأرض ودورانها معها، أو تكوينها من صخور متباينة في الألوان والأشكال والهيئة أو دورها في إنزال المطر، وتغذية الأنهار، وشق الأودية والفجاج، أو في جريان السيول، وغير ذلك من العمليات الأرضية.
5.   تأكيد حقيقة أن كل نوع من أنواع الحياة يمثل أمة من الأمم التي تجمعها صفات خارجية واحدة، وبنية تشريحية داخلية واحدة، ووظائف أعضاء واحدة، وبنية كيميائية حيوية واحدة، وصفات وراثية أساسية واحدة، وظروف بيئية متقاربة –وإن باعدت بينها المسافات الأرضية- وقدرة على التزوج فيما بينها وإنتاج سلالة خصبة، وهذا ما توصلت إليه العلوم المكتسبة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
6.   إن النمل كأمة من الأمم تحيا في جماعات منظمة، لها لغتها الخاصة بها مع قدر من الذكاء والوعي والإدراك والشعور وحسن الإدارة والتنظيم، وتوزيع المسئوليات ومعرفة الله تعالى والمداومة على تسبيحه ومعرفة أنبيائه وتوقيرهم.
7.   وصف المراحل التي يمر بها جنين الإنسان بدقة بالغة من النطفة إلى النطفة الأمشاج (أي المختلطة)، إلى العلقة، ثم المضغة، ثم خلق العظام وكسوتها باللحم، ثم إنشائه خلقا أخر ينمو خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث، حتى يخرج إلى الحياة وليدا. وهي مراحل لم تبدأ العلوم المكتسبة في التوصل إلى إدراك شيئ منها إلا بعد بناء المجهر في القرن السابع عشر الميلادي (النحل: 4، المؤمنون: 12-16، السجدة: 7-9، يس: 77، الزمر:6، القيامة: 36-39، العلق: 1-5، الحج: 5-7، عبس: 17-19، نوح: 13-14).
هذا هو بعض النماذج الذي سردته من كتاب (قضية الإعجاز العلمي) للدكتور زغلول النجار، للمزيد من المعرفة فارجع إليه إن شئت، وهذا يدلنا على مدى الوضوح والجلاء لسبق القرآن الكريم العلمي على ما اكتشفه العلماء في العصر الحديث (وقل الحمد لله سيريكم أياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون).

  1. الإعجاز العلمي في حقل الدعوة الإسلامية كوجه من وجوه هداية البشر
       عندما حضرت محاضرة لفضيلة الأستاذ الدكتور زغلول النجار في مسجد النور بالعباسية وكذا في ملتقى الفكر الإسلامي في مسجد الحسين (ذلك البرنامج عقده وزير الأوقاف المصرية) وجدت جما غفيرا من الحضور كأنهم مشتاقون إلى سماع محاضرته العلمية حول الإعجاز العلمي للقرأن والسنة. وهذا، إن دل على شيئ فإنما يدل على أن الإشارات العلمية من إحدى وسائل الدعوة حيث إن النفس المسلمة تشتاق إلى معرفة معجزة ربه التي تتمثل في الإعجاز العلمي، وهذا لا شك أن الإعجاز العلمي من إحدى وجه هداية البشر سواء كان للمسلمين أو غيرهم. أما بالنسبة للمسلمين فيزداد إيمانهم إلى إيمانهم بكتاب ربهم و يدفعهم إلى تدبر ما في الكتاب، وليس فقط القراءة الجردة من التدبر. وبالنسبة لغير المسلمين يكون الإعجاز العلمي دليل صدق على القرأن ويتبين لهم أنه الحق مما يؤدي إلى دخولهم في دين الله أفواجا بإذن الله، خاصة أن العالم اليوم يتحدث بلغة العلم.
       القرأن الكريم كما قد أشرت إليه هو كتاب هداية للناس. فالذي يفسر القرأن يحاول أن يكشف مراد الله تعالى ويتدبر معانيه ويهتدي بهديه. لقد أدرك الإمام محمد عبده أهمية هذا الجانب حتى جعله شرطا من شروط المفسر، وأن الذي يفهم الأيات المونية بظاهرها كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من الحكمة. لقد ذكر العلماء أهمية هذا النوع من الإعجاز في الدعوة إلى دين الله، خاصة أن أكثر المسلمين من غير العرب، بل أغلبية الناس في العالم من غير المسلمين. وهؤلاء لا يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من ناحيته اللغوية أو البلاغية لأن هذا يتعلق بالذوق العربي الذي بلغ القرآن منتهاه. أما الإعجاز العلمي فهو ما يمكن إدراكه للجميع من العرب والعجم ولا ينكر ذلك إلا مكابر ومعاند.
       وتبقى هذه الإشارات الكونية في كتاب الله خطابا لأهل عصرنا -عصر التقدم العلمي والتقني- المذهل الذي نعيشه والذي فتن أهله بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة، وهذه الإشارات تبقي لهم أدلة مادية ملموسة شاهدة على أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية[105]. ونشر نتائج تلك الجهود من أجل أن نصحح كثيرا من المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين، وأن نوجد قواعد لدعوة إسلامية راشدة بلغة العصر وأسلوبه، وأن نحيد هذا الحجم الرهيب من الكراهية العنصرية البغيضة التي يشنها غلاة الضالين من الكفار والمشركين ضد الإسلام والمسلمين دون أن يتعرفوا على حقيقة هذا الدين الخاتم الذي لا يرتضي ربنا تبارك وتعالى من عباده دينا سواه[106].
       إن إعجاز العلمي يبقى من أنجح أساليب الدعوة إلى الله في عصر العلم والتقنية الذي نعيشه.ومن هنا تتضح أهمية القرآن الكريم في هداية البشرية خاصة في زمن كالذي نعيشه اليوم، والذي فتح الله تعالى فيه على الإنسان من أبواب العلم بالكون ومكوناته ومظاهره ما لم يفتح به من قبل وفتن الإنسان فيه بالعلوم الكونية وتطبيقاتها فتنة كبيرة، ونسي الهدف الرئيسي من وجوده في هذه الحياة، عبدا لله مستخلفا في الأرض لعبادة خالقه بما أمر، ولعمارة الأرض وإقامة عدل الله فيها استعدادا للقاء الله.كذلك أن ثبات صدق الإشارات القرآنية في القضايا الكونية أدعى إلى التسليم بحقائق القرآن الأخرى، خاصة ما يرد منها في مجال القضايا الغيبية والسلوكية من مثل قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات[107].
       وفي فهم الدلالة العلمية للإشارة الكونية في كل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ترسيخ لإيمان المؤمنين وإثبات لغيرهم بأن هذا السبق العلمي الذي جاء منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة لا يمكن أن يكون له مصدر غير الله الخالق –سبحانه وتعالى- والغالبية من أهل الأرض اليوم لا تؤمن بحجية القرآن الكريم ولا بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ولا تؤمن بصدق إنبائه عن ربه وإخلاصه في تبليغ رسالته، وربما كان في لفت أنظارهم إلى السبق العلمي في كل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أسلوب في الدعوة إلى دين الله يتواءم مع طبيعة العصر ومنطق الناس فيه، وتشجيع للعلماء المعاصرين على التعامل مع كل من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف[108].
  
  1. الخاتمة
             قضية الإعجاز العلمي وتفسيره من القضية المهمة التي لابد أن نهتم بها، خاصة في عصرنا -عصر التقدم العلمي- الذي وصل إلى ما لم يصل إليه السابقون، وتوفر الأيات القرأنية التي تشير إلى الإشارات العلمية والكونية التي أعدها الدارسون أن أياتها أكثر من ألف أية صريحة، بالإضافة إلى الأيات التي تقرب دلالتها إلى الصريحة. فمن العيب والتقصير على الأمة الإسلامية أن تهمل هذا الجانب المهم لكونه زادا للدعوة إلى الله على بصيرة ولكونه عونا على دينه ودنياه بل يري القرضاوي أن هذا النظر اعتبره من الفروض الدينية التي أوجبها القرآن على كل من أمن به، كما أكد أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بالدين وحده، إنما يمكن أن يعيش بالدنيا فقط، أو بالدين والدنيا معا، وهذا ما حكاه القرآن: (فمن الناس من يقول ربنا أتنا في الدنيا وما له في الأخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار).
             أما الذي اختلف فيه المختلفون في هذه القضية بما فيها من نقطة الإتفاق والإختلاف فأرى أن هذا الإختلاف يرجع إلى السبب الرئيس وهو ازدواجية التعليم بين كلا الفريقين. فعقلاء الشريعة عندهم معلومة كافية عن العلوم النقلية ولكن بمنأى عن العلوم العقلية والطبيعية والتقنية البحتة، ورجال علوم العقلية لهم ثقافة واسعة عن العلوم الطبيعية وتقنياتها وفي نفس الوقت لم ينالوا حظا كافيا من العلوم النقلية. ونتيجة هذا الفصل بينهما أن يحدث الخلل في النظر في هذه القضية وتخوف كل من الشرعيين والعلميين من الخوض في هذه التجربة التي بدأها علماء المسلمين من قبل القرن الهحري الثالث، اللهم إلا عدد قليل منهم. وهذا ما نعاه الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه القرآن والعلوم العصرية أن هذه الأمة ينقصهم أمران: الإتحاد والعلم. لقد برع علماؤنا القدماء في مجال النقلية وكذلك في مجال العقلية أمثال الإمام الشافعي ( ت 204 هـ)، والطبري (ت 310 هـ)، والباقلاني (ت 403 هـ)، والغزالي (ت 505 هـ)، وابن رشد (ت 595 هـ)، الفخر الرازي (ت 606 هـ) وغيرهم. وفي ظل هذه الظروف، الرجوع إلى المتخصص –كل في مجاله- هو من أهمية  شديدة في التعامل مع الأيات الكونية حتى لا يؤدي إلى بلبلة في الشارع لخوض غير المتخصص فيها، وهذا ما أمره القرآن (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
وانطلاقا من هذا، طالب الكثيرون من العلماء وما زالوا مطالبين بضرورة التأصيل الإسلامي للمعرفة بمعنى إرجاعها إلى أصولها الإسلامية، وضرورة ربط كل علومنا وأعمالنا بهذا الدين الذي هو حبل الله المتين، ولا فصل بين الدين والدنيا بل نجعل الدنيا للإستعانة لهذا الدين، لأن الدنيا مزرعة الأخرة. وسبحان من علمنا بقوله  (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

القاهرة، 30 يناير 2013.



المراجع والمصادر

1.      القرآن الكريم
2.      ابن كثير: تفسير القرأن العظيم، مكتبة الصفا بالقاهرة، ط. 1، 2004.
3.      أسامة السيد محمود الأزهري، المدخل إلى أصول التفسير، الوابل الصيب، ط. 1، 2010.
4.      البيجوري، تحفة المريد على جوهر التوحيد، دار السعادة، بدون تاريخ.
5.      الزركشي، البرهان في علوم القرأن، دار الحديث القاهرة، ط.1، 2006.
6.      زغلول النجار، قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وضوابط التعامل معها، نهضة مصر، ط. 4، 2009.
7.      السيوطي، الإتقان في علوم القرأن، دار الحديث القاهرة، ط. 2006.
8.      السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، دار الفكر العربي، بدون تاريخ.
9.      الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة مع شرح جليل للشيخ عبد الله دراز، دار الحديث القاهرة، 2006 م.
10.  طنطاوي جوهري، جواهر القرآن، مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط. 2، 1350 هـ.
11.  طه الدسوقي الحبيشي، "النبوة والتنبؤ قراءة جديدة في مسائل العقيدة "
12.  عبد الفتاح عبد الغني العواري، روضة الطالبين في مناهج المفسرين، بدون تاريخ.
13.  عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد، مكتبة النافذة، ط. 1، 2012.
14.  عبد العزيز جادو، الشيخ طنطاوي جوهري دراسة ونصوص، دار المعارف، بدون تاريخ.
15.  الغزالي، جواهر القرآن، دار الجيل بيروت و دار الآفاق الجديدة بيروت، ط. 6، 1988.
16.  الغزالي، إحياء علوم الدين، مكتبة الصفا، ط. 1، 2003.
17.  كارم السيد غنيم، الإشارات العلمية في القرأن الكريم بين الدراسة والتطبيق، دار الفكر العربي، ط. 1، 1995.
18.  المبار كفوري، شرح تحفة الأحوذي، دار الفكر بيروت، 1995.
19.  محمد إبراهيم شريف، اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم، دار السلام، ط. 1، 2008.
20.  محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، دار الحديث القاهرة، 2005 م.
21.  محمد شامة، في رحاب القرآن، أبوللو، ط. 1، 1988.
22.  محمد عبد الله دراز، مدخل إلى القرآن الكريم، دار القلم كويت، ط. 5، 2003.
23.  محمد عبده، الأعمال الكاملة لللإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009.
24.  محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن؟، دار نهضة مصر، ط. 13، 2012.
25.   محمد متولي الشعراوي، الإعجاز العلمي في القرآن من إعداد وتعليق وتقديم عبد الرحيم محمد متولي الشعراوي، المكتبة التوفيقية، بدون التاريخ.
26.  موريس بوكاي، القرأن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ط. 1، 2010. من إعداد وتقديم د. الحسيني الحسيني معدي.
27.  مولاي عمر بن حماد، علم أصول التفسير محاولة في البناء، مؤسسة البحوث والدراسات العلمية فاس – المغرب، ودار السلام القاهرة، ط. 1، 2010.
28.  مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مؤسسة الكتب الثقافية، ط.1، 2004.
29.  نور الدين عتر، علوم القرآن، دار البصائر، ط. 1، 2012.
30.  يوسف القرضاوي، موقف الإسلام من العقل والعلم، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، 2013.




[1] يناقش البحث في مركز الكواكب الفصحاء بالقاهرة ، 1 فبراير 2013 م
[2] موريس بوكاي، القرأن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، ص. 352، ط. 1، 2010. من إعداد وتقديم د. الحسيني الحسيني معدي.
[3] الإمام ابن كثير: تفسير القرأن العظيم، مكتبة الصفا بالقاهرة، ص. 113-114، ط. 1، 2004.
[4] الإمام السيوطي، الإتقان في علوم القرأن، دار الحديث القاهرة، ص. 256-257، ط. 2006.
[5]  أخرجه الترمذي شرح تحفة الأحوذي، ج 8 باب ما جاء في فضل القرأن، ص. 183، دار الفكر بيروت، 1995.
[6] الزركشي، البرهان في علوم القرأن، دار الحديث القاهرة، ص. 18، ط.1، 2006.
[7] الغزالي، جواهر القرآن، دار الجيل بيروت و دار الآفاق الجديدة بيروت، ص. 27، ط. 6، 1988.
[8]  الزركشي، مرجع سابق، ص. 435.
[9] للمزيد من التفاصيل إرجع إلى الإتقان للإمام السيوطي في النوع الخامس والستين في العلوم المستنبطة من القرآن.
[10]  أسامة السيد محمود الأزهري، المدخل إلى أصول التفسير، الوابل الصيب، ص. 16، ط. 1، 2010.
[11] إبراهيم البيجوري: تحفة المريد على جوهر التوحيد، دار السعادة، ص. 77 ، بدون تاريخ.
[12] إقرأ "النبوة والتنبؤ قراءة جديدة في مسائل العقيدة " لشيخنا أ. د. طه الدسوقي الحبيشي.
[13] زغلول النجار، قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وضوابط التعامل معها، نهضة مصر، ص. 34، ط. 4، 2009.
[14] مسلم (د/ مصطفى): مباحث في إعجاز القرأن. دار المنارة-جدة، ط. 1، 1408/ 1988 م. نقلا عن د.كارم السيد غنيم: الإشارات العلمية في القرأن الكريم بين الدراسة و التطبيق، دار الفكر العربي، ص. 23، ط. 1، 1415 ه/ 1995 م. 
[15] كارم السيد غنيم، الإشارات العلمية في القرأن الكريم بين الدراسة والتطبيق، دار الفكر العربي، ص.23، ط. 1، 1995.
[16] كارم السيد غنيم، المرجع السابق، ص. 38.
[17] تفسير ابن كثير، ص. 14.
[18] تفسير ابن كثير، ص. 15.
[19] تفسير ابن كثير، ص. 12.
[20] تفسير ابن كثير، ص. 13.
[21] تفسير ابن كثير، ص. 16.
[22] كارم السيد غنيم: مرجع سابق، ص. 38-41 بتصرف.
[23] كارم السيد غنيم: مرجع سابق، ص. 37.
[24] الإمام السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، دار الفكر العربي، ص.3-4، بدون تاريخ.
[25] معترك الأقران، مرجع سابق، ص. 11-12.
[26]  كارم السيد غانم، مرجع سابق، ص. 43-51 بتصرف.
[27] زغلول النجار، مرجع سابق، ص. 20.
[28] الإمام الغزالي، مرجع سابق، ص.26.  
[29] الإتقان، ص. 449، ج. 4.
[30] الإتقان، ص. 450، ج.4.
[31]  عبد الفتاح عبد الغني العواري، روضة الطالبين في مناهج المفسرين، ص. 13، ج. 1، بدون تاريخ.
 [32] الإتقان، ص. 109. ج. 1.
 [33] الإتقان، ص. 452 ج. 4.
[34]  الإتقان، ص.455-456، ج. 4. بتصرف.
[35]  الإتقان، ص. 464-466، بتصرف.
[36] مولاي عمر بن حماد، علم أصول التفسير محاولة في البناء، مؤسسة البحوث والدراسات العلمية فاس – المغرب، ودار السلام القاهرة، ص. 208، ط. 1، 2010.
[37] محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن؟، دار نهضة مصر، ص. 138-140 بتصرف، ط. 13، 2012.
[38] زغلول النجار، مرجع سابق، ص.  54-56.
[39] محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، دار الحديث القاهرة، ص. 425، 2005 م.
[40] الإمام الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الحديث القاهرة، ج. 2، ص. 308-317، 2006 م. بتصرف.
[41] إقرأ الشيخ عبد الله دراز في شرحه على الموافقات للشاطبي، ص. 308.
[42] نقلا عن الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم، ص. 116.
[43] محمد غزالي، مرجع سابق، ص. 200.
[44] الشيخ عبد الله دراز، مرجع سابق، ص. 309.
[45] الشيخ مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مؤسسة الكتب الثقافية، ص. 97-98، ط.1، 2004. بتصرف.
[46] الشيخ عبد الله دراز، مرجع سابق، ص. 310.
[47] الشيخ عبد الله دراز، مرجع سابق، ص. 311.
[48] الشيخ عبد الله دراز، مرجع سابق، ص. 316.
[49] الشيخ عبد الله دراز، ، مرجع سابق. ص. 317.
[50] محمد حسين الذهبي، مرجع سابق، ص. 453-454.
[51] محمد إبراهيم شريف، اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم، دار اسلام، ص. 455-460 بتصرف، ط. 1، 2008.
[52] محمد حسين الذهبي، مرجع سابق، ج. 2، ص. 430-431، بتصرف.
[53] نور الدين عتر، علوم القرآن، دار البصائر، ص. 238، ط. 1، 2012.
[54] محمد شامة، في رحاب القرآن، أبوللو، ص. 104، ط. 1، 1988.
[55] محمد شامة، مرجع سابق، ص. 104-106. بتصرف.
[56] محمد متولي الشعراوي، الإعجاز العلمي في القرآن من إعداد وتعليق وتقديم عبد الرحيم محمد متولي الشعراوي، المكتبة التوفيقية، بدون التاريخ.
[57] في  إحياء علوم الدين و جواهر القرآن.
[58] صاحب تفسير فخر الرازي (التفسير الكبير)، إقرأ التفسير والمفسرون للذهبي ص. 252، ط. دار الحديث.
[59] إقرأ الإتقان، وقد ذكرت في هذه المقالة ص. 3.
[60] صاحب أنوار التنزيل وأسرار التأويل، إقرأ التفسير والمفسرون، ص. 256.
[61] صاحب غرائب القرآن ورغائب الفرقان، إقرأ التفسير والمفسرون، ص. 279.
[62] صاحب روح المعاني، إقرأ التفسير والمفسرون، ص. 305.
[63] الغزالي، إحياء علوم الدين، مكتبة الصفا، ج. 1، ص. 346، ط. 1، 2003.
[64] الغزالي، جواهر القرآن، مرجع سابق، ص. 26.
[65] جواهر القرآن، ص. 17-24.
[66] جواهر القرآن، ص. 25-27.
[67] إقرأ التفسير والمفسرون للذهبي، ص.435.
[68] مرجع سابق.
[69] مرجع سابق، واقرأ كتاب (طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد) للكواكبي، مكتبة النافذة، ص. 33-36، ط. 1، 2012.
[70] الأعمال الكاملة لللإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، ج. 1، ص. 10، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009.
[71] صاحب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.
[72] صاحب الجواهر في التفسير.
[73] صاحب كليات رسائل النور، واقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[74] صاحب تفسير التحرير والتنوير، وإقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[75] صاحب التفسير العلمي للأيات الكونية في القرآن.
[76] صاحب (الله والكون)، واقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[77] صاحب تفسير الأيات الكونية، واقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[78] التفسير والمفسرون، ص. 433.
[79] محمد إبراهيم شريف، مرجع سابق، ص. 465.
[80] إقرأ عبد العزيز جادو، الشيخ طنطاوي جوهري دراسة ونصوص، دار المعارف، بدون تاريخ.
[81] عبد العزيز جادو، مرجع سابق، ص. 55-56.
[82] طنطاوي جوهري، جواهر القرآن، مصطفى بابي الحلبي وأولاده بمصر، ص. 2، ط. 2، 1350 ه.
[83] عبد العزيز جادو، مرجع سابق، ص. 56.
[84] التفسير والمفسرون، ص. 443.
[85] مرجع سابق، ص.56-57.
[86] الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، مرجع سابق، ص.9.
[87] مرجع سابق، ص. 10.
[88] التفسير والمفسرون، ص.445.
[89] عبد العزيز جادو، مرجع سابق، ص. 60.
[90] إقرأ التفسير والمفسرون، ص. 446.
[91] إقرأ الإشارات العلمية في القرآن بين الدراسة والتطبيق، للدكتور كارم السيد غنيم، ص. 35.
[92] زغلول النجار، مرجع سابق، ص. 109-111.
[93] إقرأ الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق، لدكتور كارم السيد غنيم، ص. 190.
[94] إقرأ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم للشعراوي، من إعداد وتقديم عبد الرحيم محمد متولي الشعراوي.
[95] إقرأ مدخل إلى القرآن الكريم للدراز.
[96] إقرأ المعجزة الكبرى لمحمد أبو زهرة، واقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[97] إقرأ المعجزة العلمية في القرآن والسنة للزنداني، واقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[98] إقرأ الإسلام في عصر العلمي للغمراوي، واقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[99] إقرأ موقف الإسلام من العقل والعلم للقرضاوي.
[100] إقرأ قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وضوابط التعامل معها لزغلول النجار.
[101] إقرأ الإشارات العلمية لكارم السيد غنيم.
[102] زغلول النجار، مرجع سابق، ص. 27.
[103] زغلول النجار، مرجع سابق، ص. 49-56.
[104] زغلول النجار، مرجع سابق، ص. 301-302.
[105] زغلول النجار، مرجع سابق، ص. 180.
[106] مرجع سابق، 184.
[107] مرجع سابق، ص. 189-190
[108] مرجع سابق، ص. 200.

No comments:

Post a Comment