Monday, October 28, 2013


بسم الله الرحمن الرحيم
رسم القرآن توقيفي أم اصطلاحي ؟
بقلم : أحمد مشفع محمد طه

العرب قبل مجيئ الإسلام مشهورة بأنها أمة أمية لا تعرف الكتابة والقراءة, وقد جاء القرآن يتحدث عن أميتها فقال : ((هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)), وما روي عن النبي  صلى الله عليه وسلم : ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)). 

ولكن هناك أناس قليلون تعلموا الكتابة قبيل الإسلام إرهاصا من الله وتمهيدا لبعثة خاتم الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليجتمع في حفظ القرآن الكتابة في الصحف والحفظ في الصدور. وبذلك يتحقق وعد الله جل وعلا : (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)).

ثم جاء الإسلام يحارب هذه الأمية ويرفع من شأن الكتابة وتعلمها, وذلك يبدو جليا فيما أتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أول الوحي. يقول الله تبارك وتعالى : (( اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. )).
ما هو رسم القرآن ؟
          
رسم القرآن أو المصحف يراد به طريقة كتابة القرآن التي ارتضى بها عثمان رضي الله عنه. وبه يقول الدكتور نور الدين عتر : ((والمراد برسم القرآن هنا كيفية كتابة الحروف والكلمات في المصحف على الطريقة التي كتبت عليها في المصاحف التي أمر عثمان اللجنة الرباعية فكتبتها, ووزعها على الأمصار. ويطلق عليه رسم المصحف, ومرسوم الخط )).[1]

ويعد رسم المصحف علما مستقلا, وعني بالتأليف فيه العلماء قديما وحديثا لأن في بعض الحروف يخالف خط المصحف الإمام القواعد المقررة في الكتابة الإملائية. ولذلك قيل : خطان لا يقاس عليهما, خط المصحف وخط العروض. أما الأول فلأن المعول عليه فيه المأثور والمنقول ولا الملفوظ المنطوق, وأما الثاني فلأن المعول عليه في وزن المنطوق الملفوظ.[2] وينحصر أمر الرسم في ستة قواعد :[3]
1.      الحذف, كحذف الألف من كل جمع على وزن مفاعل وشبهه نحو (مَسَجد) و (النصرى). وغير ذلك إلا ما استثني
2.      والزيادة, كزيادة الياء في نحو (نبإي المرسلين) و (ملإيهم). وغير ذلك إلا ما استثني
3.      و قاعدة الهمز, منها الهمزة إذا كانت ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها نحو (ائذن, اؤتمن, البأساء) إلا ما استثني 
4.      وقاعدة البدل, منها الألف تكتب واوا للتفخيم في مثل الصلاة والزكاة والحياة إلا ما استثني
5.      وقاعدة الفصل والوصل, منها كلمة (من) توصل بكلمة (ما) إذا وقعت بعدها. ويستثنى ((من ما ملكت أيمنكم)).
6.   وقاعدة ما فيه قراآتان, منها إن الكلمة إذا قرئت على وجهين تكتب برسم أحدهما, كما رسمت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف وهي ((ملك يوم الدين, يخدعون الله, وعدنا موسى, تفدوهم)) ونحوها.

ولاتباع رسم المصحف العثماني فوائد منها :[4]
1.      اتصال السند بالقرآن الكريم. فلا يجوز لأحد أن يقرأه أو يقرئه غيره إلا بروايته بسند متصل.
2.      الدلالة على أصل الحركة ككتابة الكسرة ياء والضمة واوا نحو ((وإيتاءي ذي القربى)) و ((سأوريكم))
3.   الدلالة على بعض اللغات الفصيحة ككتابة هاء التأنيث تاء في لغة طيء ومثل حذف آخر المضارع المعتل لغير جازم مثل ((يوم يأت)) في لغة هذيل.
4.   الدلالة على معنى خفي دقيق, كزيادة الياء في قوله تعالى ((والسماء بنيناها بأييد)) بياءين وذلك للإيماء إلى قدرة الخالق جل وعلا التي بني بها السماء, وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

هل رسم المصحف توقيفي؟
          
 للعلماء في رسم المصحف آراء ثلاثة : [5]
الرأي الأول :
أنه توقيفي لا يجوز مخالفته. وذلك مذهب الجمهور. واستدلوا  بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتّاب يكتبون الوحي, وقد كتبوا فعلا بهذا الرسم وأقرهم الرسول على كتابتهم, ومضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغير ولا تبديل. ثم جاء أبو بكر فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف, ثم حذا حذوه عثمان في خلافته فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف على تلك الكتبة, وأقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين, وانتهى الأمر بعد ذلك إلى التابعين وتابعي التابعين فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم.

وأنت خبير بأن اتباع الرسول واجب فيما أمر به وأقر عليه لقوله تعالى : ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفرلكم ذنوبكم)) والاهتداء بهدي الصحابة واجب خصوصا الخلفاء الراشدين لحديث عرباض بن سارية وفيه يقول صلى الله عليه وسلم : ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)). ولا ريب أن إجماع الأمة في أي عصر واجب الاتباع خصوصا العصر الأول. قال تعالى : (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسائت مصيرا )).  

أقوال العلماء في التزام الرسم العثماني :
روى السخاوي أن مالكا رحمه الله سئل : أرأيت من استكتب مصحفا أترى أن يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم؟ فقال لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى.
وقال السخاوي : والذي ذهب إليه مالك هو الحق. وقال أبو عمرو الداني : لا مخالف لمالك من علماء الأمة في ذلك.
وقال الأمام أحمد بن حنبل : تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك.

ويمكن مناقشة هذا الرأي الأول بأن الأدلة التي ساقوها لا تدل على تحريم كتابة القرآن بغير هذا الرسم. إذ ليس فيه زجر الإثم ووعيده ولا نهي الحرام وتهديده, إنما قصاراها الدلالة على جواز الكتابة بالرسم العثماني ووجاهته ودقته, وذلك محل اتفاق وتسليم.

الرأي الثاني :
أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي , وعليه فتجوزمخالفته. وممن جنح إلى هذا الرأي ابن خلدون في مقدمته. وممن تحمس له القاضي أبو بكر الباقلاني في الانتصار إذ يقول ما نصه : (( وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا, إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه, إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف. وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه, ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه, ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك, ولا دلت عليه القياسات الشرعية )).

ونوقش هذا المذهب :
أولا : بالأدلة التي ساقها جمهور العلماء لتأييد مذهبهم. وها هي بين يديك من كثب بعضها من السنة وبعضها من إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
ثانيا : أن ما ادعاه من أنه ليس في نصوص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه مردود بما سبق من إقرار الرسول كتاب الوحي على هذا الرسم ومنهم زيد بن ثابت الذي كتب المصحف لأبي بكر وكتب المصاحف لعثمان.

الرأي الثالث :

يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان, إلى ما يفهم من كلام العز بن عبد السلام من أنه يجوز بل تجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم, ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول, لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن يجب في الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كآثر من الآثار النفيسة المورثة عن سلفنا الصالح, فلا يهمل مراعاة لجهل الجاهلين, بل يبقى في أيدي العارفين الذي لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان إذ يقول ما نصه :

((وأما كتابته (أي المصحف) على ما أحدث الناس من الهجاء, فقد جرى عليه أهل المشرق, بناء على كونها أبعد من اللبس, وتحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك وقد شئل. هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال : لا, إلا على الكتبة الأولى. قال في البرهان : قلت : وهذا كان في الصدر الأول, والعلم حي غض,  وأما الآن فقد يخشى الالتباس, ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه, لئلا يؤدي إلى دروس العلم. وشيء قد أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين. ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجته((. اهـ. 

أقول –يعني صاحب مناهل العرفان-  : وهذالرأي يقوم على رعاية الاحتياط للقرآن من ناحيتين : ناحية كتابته في كل عصر بالرسم المعروف فيه, إبعادا للناس عن اللبس والخلط في القرآن, وناحية إبقاء رسمه الأول المأثور يقرؤه العارفون ومن لا يخشى عليهم الالتباس. ولا شك أن الاحتياط مطلب ديني جليل, خصوصا في جانب حماية التنزيل.



[1] ) نور الدين عتر, علوم القرآن الكريم, دار البصائر 2012 م. ص. 187
[2] ) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم للشيخ أبي شهبة. ص. 302, دار الجيل 1992 م.
[3] ) انظر مناهل العرفان ص. 290-293, دار السلام ط.2, 2010 م.
[4] ) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم للشيخ أبي شهبة. ص. 312-313, دار الجيل 1992 م.
[5] ) انظر مناهل العرفان ص. 296-302 , دار السلام ط.2, 2010 م.

1 comment: