Saturday, October 26, 2013

أيات الله في الإسكندرية


بسم الله الرحمن الرحيم

أيات الله في الإسكندرية
بقلم : محي الدين صالح الدين

مدينة معروفة ، عرفتُها قبل قدومي إلى مصر العزيزة . مدينة قديمة ، مُسجَّلة في كتب التاريخ ، تشهد على حركات كبار الشخصيات على مرّ العصور . وهي مسكنُهم و قصرهم و دليل مفخرتهم ، تلك هي الإسكندرية
فيا لها من فرصة ذهبية أتت بأمر ربها إليّ . فها أنا قادمٌ إليكِ ، مشتاقٌ إلى إبتسامات أهلكِ ، و شواطئك المُتقدة المملوؤة بنسيم الصباح ، و ظلامِ ليلكِ الواضعِ أجنحتَه السوداء في الأفق .


الإسكندرية ترحب بحافلتي في يوم كانت الشمس قاعدةً في وسط علياء السماء ، فاشتدت حرارتها ، و زحام السيارات منتظرٌ أمام عينَيّ ، يومئذ الإسكندرية تطمئنني بصوت أمواجها الذي قرع سمعي ، حتى غلب نار شوقي على الحرارة و الزحام و التعب .

واستظل مساءكِ الذي يملأ نفسي أُنسًا ونوراً ، و قلبي بهجةً وسروراً . ما لي أرى الشمس تنحدر قليلا قليلا ، وكأنها راقدة على البحر البعيد الهادئ ، و يزداد جمالُها بانبعاث ضيائها ، فكأن السماوات ملونة بالأحمر والأصفر ، كما رأيتُ على البعد خطوطَ الحضراء تتستر على طول البحر وعرضها  ، والطّيورَ المغردة في جو سماءئها .

ثم أقبل الليل ، وانطلقتُ أمشي على طرقات الإسكندرية مشية الحائر الذاهل لا أعرف لي مذهبا ولا تجاها . ظللتُ أمشي فما أكاد أخطو خطوة حتي أرى منظرا ما رأيتُ في سابق حياتي ، قمرا منيرا يلمع من جانب الأفق ، كالسيف المسلول ، لمعان نوره كالبرق في الليلة الظلماء . ونوره يتلألأ تلألؤ الكوكب في علياء السماء على المباني و العمارات الممتدة على شواطئكِ . يا لها من جمال ...

وبينما كنتُ في تلك الحالة ، فإذا برفقاء رحلتي ، ودعوني للجلوس . فجلسنا جِلسة رجل زاهد متجهين نحو الشاطئ . ولمحنا تلك الإبتسامات في وجوه الأطفال الذين يلعبون ويصرُخون ويصارعون مع الأمواج المتلاطمة ،  كأنهم يعيشون في هذه الحياة إلى الأبد .    

فهنأتُ نفسي و أحبابي يوم انطلاقنا متجهين زائرين نحو القلعة الموجودة في طرف الإسكندرية ، البوابة الأولى من ناحية البحر ، وكأنها قصر مشيد يتلألأ في تلك البقعة . وهي حصن الحصين ، استخدموها[1] القواد في الأزمان الغابرة لحماية الإسكندرية المحبوبة من هجمات الأعداء .

ثم تستمر الجولة إلى المسجد البوصيري ، نعم ،  فالاسم ليس ببعيد عن المسمى ، ذلك المسجد المتواضع  الذي دفن فيه شيخ المدائح ، صاحب البردة الشهيرة . فلما وصلنا إليه ، مرت بخاطري تلك الذكرى ، ذكرى الموت . كل نفس ذائقة الموت . و إن الدنيا – كما قال صاحب النظارات – ليست بدار قرار ، فلا أمل في البقاء فيها والركون إليها ، والاستمتاع بلذة الحياة فيها ، وأنها الجسر الذي يمر به الأحياء إلى الدار الأخرى .

وختام المغامرة في ذلك اليوم الأغر زيارة المكتبة . وهي أمارة الثقافة والحضارة في الإسكندرية ، التي احتوت أمهات الكتب والمخطوطات بشرقيتها وغربيتها ، مختلفة الألوان والفنون والطباعات ، الكتب التي تستطيع أن تحول الجهل علما ، والظلمة نورا ، والسواد بياضا ، والسجن قصرا .

ويزداد جمال الإسكندرية بذلك البستان الزاهر الواقف أمام البحر . " المنتزه " ذلك الاسم الذي تطاير في أحلامي مع الحمائم البيضاء ، ذلك البستان – كما سمعتُه من ألسنة العشاق الزائرين – مملوؤ بالأزهار والأشجار . فأما الأزهار فيها كأنها ألفاظ حب رقيقية تسقى حماسة للنحل . وأما الأشجار ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، ملتفة الأغصان ، تغشى الزائرين بظلالها ، متنوعة الأجناس ، منها النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون و الرمان مشتبها وغير متشابه .

سبحان من خلق الليل و النهار والشمس والقمر ، وجعل كله في فلك يسبحون . يا لها من خسارة لمن لهم عقول لا يفقهون بها . و يا لها من ندامة لمن لهم عيون يبصرون بها روعة و جمال المخلوقات و لا يتدبرونها .  
وصدق الله القائل في كتابه العزيز :

(( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لأيات لقوم يعقلون ))
 ( البقرة : 164 )           
القاهرة ، 18 سبتمبير 2013 م


[1] مثل أكلوني البراغيث

1 comment: