Saturday, November 9, 2013




معركة المصطلح بين الذوق البلاغي والطمس النحوي
 في ضوء القرآن الكريم
 
شرف الدين ألدي مسلم 

دكتوراه في البلاغة والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة،
شعبة اللغة العربية وآدابها، جامعة الأزهر الشريف
syaraf_2007@yahoo.com.my




الملخص
إن الخلافات التي نشبت بين العلماء فيما يطلق عليه حرف الزائد لجدير بالاهتمام والبحث، وإطلاقها ليست هي عين المشكلة في ذاتها بقدر ما تثيرها هذه المصطلحات المستخدمة عند أكثر النحويين في النحو من لدن الإمام سيبويه -أبو عذره- إلى السمين الحلبي وغيرهم، من إيهام وإبهام وتوظيف هذه المصطلحات في النص القرآني، والذي انتقل عدواه إلى بعض المفسرين فما لبث حتى انطمست على معاني هذه الحروف التي يطلق عليها "الزائد" وأخفتها، وطغت على حقيقة أسرارها، وإخلال بمقاصد بلاغة نظمها وعلاقتها بإيمان المسلمين ومدخل إيثار الشبهات بكتابهم كما قال ابن الأثير، وراء كل ذلك جاءت هذه المقالة في بيان آثار إطلاق مثل هذه المصطلحات على القرآن على هذا النحو، وما يعقبها من تربص أعداء الاسلام والذين في قلوبهم مرض، وكيف كشف البلاغيون بذوقهم الأغراض الكامنة في أكمام هذه الحروف، ودور ذلك في النظم القرآني مع دراسة تطبيقية على لسان مصطفى صادق الرافعي. علما بأنني لست أهلا بالحديث عن هؤلاء العلماء الأجلاء وخلافاتهم، ولكن ما لم يقدم لم يتقدم.
الكلمة الأساسية: المعركة، الزيادة، المصطلح، الذوق.

ABSTRACT
The differences that erupted between scientists in so-called character overload for worthwhile research, launch is not the eye problem in itself as it raises the terminology used when grammarians of thermoplastic Imam Sibawaihi—excuses father—to Sameen-Halabi and others, from delude and illusions and employ these terms in Quran text, and who moved his enemy to some commentators and soon even Ant’s on the meaning of these characters called overload alverbert, and overshadowed the fact secrets, breach of the purposes eloquence systems and their relationship to faith Muslims with their Only book as In ether behind it all came this article in a statement the effects of launch such terms on the Quran as such, and subsequent harm the enemies of Islam and those in whose hearts is disease, and how detection the rhetorical scholars with the testle purposes inherent in the sleeves of these characters, and its role in systems Quran with Empirical Study on the San Mustafa Sadiq Rafii. Please note that I am not worthy to speak all these eminent scientists and their differences, but unless the offers did not make and God knows best.
Keywords: Battle, Increas, Terminology, Taste.  


التمهيد

إن براعة حسن اختيار لفظ لمن أفضل المخبَر والاختبار؛ لأنه سلم القلم والعقل، وسبر غور الفكرة والذوق، في كتابة كل مكتوب، ونطق كل مخطوب، إذنْ هي نمط يدور بين الصعوبة والسهولة، ويصعد بالانتقاء إلى فن الارتقاء بما يتناسب والنص العادي، وهي أكبر ما تتفاضل به عقول البشر جميعا مع اختلاف ألسنتهم المتنوعة، ولهجاتهم المتعددة، وأقلامهم المتجددة، على كر الشهور ومر الدهور، وإن حسن الاختيار هو أيضا عين ما يفاضل به كلام الله كلام البشر في جميع ضروبه بدءا من حروفه مرورا بكلماته، وانتهاءا بنظمه، على حد سواء في جميع العلوم التي توصل إليه عقول المتعربين الخلّص ([1]) دون استثناء أو استقصاء.

وهذا ما أدى بعلمائنا السلف في العلم والمعرفة إلى تفريغ كل ما أعطوا من قوة التفكير ومن رباط العقل بالاهتمام بعلم المصطلحات، والدقة في اختيارها وبراعة تحديدها حتى هدوا إلى حقيقتها، وألهموا دلالتها، إلى حين لم يستطع أحد أن يبدل هذا المصطلح الذي اصطلحوا عليه هذه العلوم، مهما توقدت قريحته، وزندت موهبته، إذ من ضوابط المصطلح، كونه للمدلول محددا، وللمسائل مفندا، وللمفهوم مقيدا، ولذا لابد أن يكون جامعا مانعا، غير متكلف ولامتعسف، لما لذلك من علاقة بالمعنى اللغوي والاصطلاحي في آنٍ واحد، وقد سجلوا ذلك قديما مدونا في الكتب والسفر ككشاف المصطلحات، ومعاجم المصطلحات في جميع التخصصات.

لكن إذا نظرنا من الناحية الأخرى إلى جهود هؤلاء العلماء، نجد أن هناك بعض المصطلحات غير منضبطة انضباطا كليا، وبالتحديد عند أكثر علماء النحو، مما أدى ببعضهم إلى رفض هذه المصطلحات وإنكارها خاصة حين تطلق وتستوظف توظيفا غير محكم في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن هذه المصطلحات ما عرف بمصطلح "الزيادة"، و"اللغو" و"الحشو" و"الإقحام" وغيرها، والذي أدى بدورها إلى بعض التساؤلات بينهم كقولهم: هل وقع زيادة في القرآن؟ وهل في القرآن حشو؟ وغير ذلك من التساؤلات التي تتلو بعضها تترا، وهذا البحث الذي بين يدي القارئ بعنوان: «معركة المصطلح بين الذوق البلاغي والطمس النحوي في ضوء القرآن الكريم»([2])، سيتناول إن شاء الله تعالى تحليل هذه الأسئلة مستصحبا بعض الأجوبة معه المتعلقة بمصطلح الزيادة عند أكثر النحويين وغيرهم، وذلك في المسائل الآتية:

المسألة الأولى: وقوع الزائد في القرآن.
لقد أحدث الأسلوب القرآني صحوة علمية جديدة بين العلماء نشبت بسببها معركة المصطلحات العلمية بين العلماء حتى قربت عشر مصطلحات على مفهوم الزيادة.

ولقد استخلص لنا الإمام الزركشي (ت:794هـ) حقيقة معركة مصطلحة الزيادة -ونعمت المعركة العلمية في خدمة كتاب الله بين علمائنا الأجلاء رحمهم الله جميعا- فيقول:
«قد اختلف في وقوع الزائد في القرآن، فمنهم من أنكره، قال الطرطوسي في (العمدة): زعم المبرد (ت285هـ) وثعلب([3]) ألّا صلة في القرآن، والدهماء من العلماء والفقهاء والمفسرين على إثبات الصلات في القرآن، وقد وجد ذلك على وجه لا يسعنا إنكاره، فذكر كثيرا.
وقال ابن الخباز([4]) في التوجيه: وعند ابن السراج أنه ليس في كلام العرب زائد؛ لأنه تكلم بغير فائدة وما جاء منه حمله على التوكيد» ([5]).

مدار الحرف الزائد في القرآن الكريم

إن الآيات القرآنية التي ذهب بعض العلماء بوقوع         حرف الزيادة فيها لا تتجاوز عدد أصابع اليد، ومدارها عند العلماء على هذه الآيات التالية وإن كانت هناك آيات أخرى لكن تناولها ليس كتناولها.

الأولى: قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾([6]).

الثانية: قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾([7]).

الثالثة: قوله تعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([8]).
والآن، سنحاول تحليل بعض هذه المصطلحات ليتضح الدال بالمدلول، والمصطلح بالمصطلح عليه، وإن كنت في البداية لا أبحث عنه.

المسألة الثانية: المصطلحات النحوية المرفوضة إطلاقها على القرآن.

 الزيادة:
إن مفهوم مصطلح الزيادة تتفاوت بين العلماء وتتباين، على حسب نزعتهم العلمية، فقد ذهب الإمام الرازي إلى أن الزيادة معناها مهمل، وإن اختلف معه البعض لكن لكل رأس رأي ولكل وجهة هو موليها، وفي هذا يقول الإمام الزركشي:
«ومنهم من جوزه وجعل وجوده كالعدم وهو أفسد الطرق. وقد رُدّ على فخر الدين الرازي قوله: إن المحققين على أن المهمل لا يقع في كلام الله سبحانه، فأما في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فيمكن أن تكون استفهامية للتعجب، والتقدير: فبأي رحمة؟ فجعل الزائد مهملا. وليس كذلك لأن الزائد ما أتى به لغرض التقوية والتوكيد، والمهمل ما لم تضعه العرب وهو ضد المستعمل، وليس المراد من الزيادة -حيث ذكرها النحويون- إهمال اللفظ ولا كونه لغوا فتحتاج إلى التنكب عن التعبير بها إلى غيرها فإنهم إنما سموا "ما" زائدة هنا لجواز تعدي العامل قبلها إلى ما بعدها لا لأنها ليس لها معنى» ([9]).

وأقول: أقف قليلا في هذه الفقرة لأستخلص منها النقاط التالية: إن الإمام الزركشي مع إنكاره لمصطلح سيبويه لم يخبرنا برأيه صراحة إلى أي مصطلح يميل.

وقوله: "لا لكونه لغوا"، فيه نظر كذلك؛ لأنه قد سبق نقل الإمام الزركشي مصطلح سيبويه على الزيادة بأنه لغو. ولم يرد على سيبويه فيما أطلق من المصطلح. فهل يوافقه في ذلك أم لا؟ أترك لك الجواب أيها القارئ العزيز.

أما إذا نظرنا إلى موقف الإمام الرازي من هذه القضية فسنرى أن مصطلح الزيادة بمعنى "مهمل" عند الإمام الرازي، بل وقد حملت عظمة إطلاق مصطلح الزيادة على حرف من نص القرآن بالإمام على ذهابه مذهبا آخر في توجيه الآية الكريمة التى أطلق عليها الزيادة، حيث حمل حرف "ما" الذي قالوا بزيادتها على معان آخرى ما عدا الزيادة، إذ فيها إيهام بالمهمل. وأنا أوافق الإمام الرازي فيما ذهب إليه.

أولا: إن مصطلح الزيادة غير مانع، لذلك رفضه فخر الرازي.

ثانيا: قول الزركشي: بأن المهمل ما لم تضعه العرب وهو ضد المستعمل، -فيه نظر- غير مانع أيضا؛ إذ هناك ألفاظ مستعملة عند العرب وأهملها المتأخرون لطول الزمن أو لكونه شاذا في القياس مطرد في الاستعمال أو العكس ([10]) كما ذكر ابن جني في الخصائص، أو لأسباب أخرى.

ثالثا: إن من أئمة المسلمين مَن فهِم مصطلح الزيادة بالمهمل كالإمام الرازي، وأسند كلامه إلى رأي المحققين، أي لرأيه سند فيما ذهب إليه. فإذا كان الأمر هكذا عند بعض المحقيين كما قال الإمام الرازي فما المانع من تجنب إطلاقها ؟.

من مصطلح الزائد "الإقحام"

قالوا في الوسيط: «(اقتحم) النجمُ: غاب وسقط، و_ المكانَ: دخله عنوة. و_ الأمرَ العظيم: رمى بنفسه فيه بغير روية، ويقال: اقتحم فلان عقبة أو وهدة: رمى بنفسه على شدة يريد اجتيازها وتخطيها، وفي التنزيل العزيز: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَة﴾. و_ الشيءَ: ازدراه» ([11]).
ولقد توصلت إلى أن أول من استخدم لفظ "الإقحام" هم النحويون، ومنهم الإمام سيبويه كما نقله العلامة السيوطي في (همع الهوامع شرح جمع الجوامع) حين قال: «... اختلف في وجه النصب، فقال سيبويه: هو على الإضافة إلى متلو الثاني، والثاني مقحم بين المضاف والمضاف إليه، والأصل يا تيم عدي تيمه، حذف الضمير من الثاني وأقحم» ([12]).
يا تيمَ تيمَ عدِيٍّ لا أبا لكم *** لا يلقينّكمُ في سوءة عمر.
 وهذا في الاسم، وأضيف بأن هناك إقحام آخر وهو في الحرف، وبيان ذلك أن حرف "لا" في (لا أبا لكم) مقحم فيه أيضا . ذكره عبد القاهر في أسرار البلاغة.
وجاء بـ"تيم" الأول مقحما توكيدا، كما أنهم لا يفرقون بين الزيادة المحضة والتكرار، والمعلوم أن ليس كل زيادة تكرار.
والتكرار عند البلاغيين بلاغة ([13]). وقد تأثر بهذا المصطلح بعض النحويين من بعد سيبويه كأبي جعفر النحاس في معاني القرآن، ثم تلقفه العلامة الزمخشري وتأثر بالزمخشري المفسرون من بعده كالبيضاوي وغيره. والذي زاد الطينَ بلة هو استخدام الإمام الزمخشري وغيره هذا المصطلح وإطلاقه على الآيات القرآنية، إذ ذلك قد يوهم فصل شيء ولازمه بالأجنبي منه. وهذا مرفوض جملة وتفصيلا عند البلاغيين في الكلام العادي فضلا عن القرآن الكريم، وحتى لا يكون مثل هذه المصطلحات معولا للمغرضين لطعن في القرآن.

من مصطلح الزائد "الصلة"

وقد بين العلماء مفهوم الصلة كما نقل ذلك ابن التمجيد في حاشيته حيث قال: «وقال بعض الأفاضل: وليس معنى الصلة الزيادة تكون لغوا، فإنه لا يصح في الكلام المعجز، وإنما المراد بها ألّا تكون موضوعة لمعنى هو جزء التركيب، وإنما تفيد وثاقة وقوة للتركيب، وقال بعضهم -في الفرق بينها وبين الحروف الموضوعة للتأكيد غير الزائد كـ" لام القسم ولام التأكيد وحرفيه"-: بأن تلك الحروف موضوعة للتأكيد هو جزء معنى التركيب، كالجص الذي يوضع بين اللبنتين، والحرف الزائد وإن كان موضوعا لمعنى التأكيد إلا أنه لا دخل له في التركيب، بل خارج عنه، كما إذا وصل خشبة بخشبة وصنع على مفصلهما ضبة، فتلك الضبة ما صارت جزءا من ذلك المركب، بل لا يفيد إلا توثيقا وزيادةَ متانة، وكذلك القول في سائر الزيادات، وبهذه الضابطة في الفرق ينحل الإشكالان المذكوران آنفا، فالظاهر أن مراد المصنف رحمه الله بالصلة هو هذا المعنى الأخير»([14]).

من مصطلح الزائد عندهم أيضا "اللغو"

هذا المصطلح يمجه اللسان قبل الآذان فلا أحد من العوام أو الخواص يقبل هذا المصطلح حتى لو كان كلامه لغوا، لكن كيف أنت إذا كان قد ورد هذا المصطلح في كلام إمام النحاة شيخنا سيبويه، قال سيبويه عقب قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾: «إن "ما" لغو؛ لأنها لم تحدث شيئا».

وقد رد الإمام عبد القاهر على ذلك بقوله: «....علمت منه أن الزيادة في هذه القضية كالحذف، فلا يجوز أن يقال: إن زيادة "ما" في نحو ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ...﴾ مجاز، أو أن جملة الكلام تصير مجازاً من أجل زيادته فيه، وذلك أن حقيقة الزيادة في الكلمة أن تعرى من معناها، وتذكر ولا فائدة لها سوى الصلة، ويكون سقوطها وثبوتها سواءً...» ([15]).
وقال غيره أيضا: «﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً ([16]) وكأنه مال ههنا إلى أنه اسم على ماهو رأي البعض، فمعنى ﴿مَثَلا ما﴾ مثلا أيَّ مثل كان، ويتفرع على الإبهام الحقارة مثل:" اعطه شيئا ما"، والفخامة مثل: "لأمر ما، يسود من يسود". إذا لم تجعل مصدرية أو النوعية مثل: "اضربه ضربا ما"، وفي الجملة تؤكد "ما" إفادة تنكير اسم قبلها وبين فائدة الصلة، بقوله للتأكيد لئلا يتوهم أنها لغو يجب صيانة الكلام الفصيح عنه»([17]).

ولقد قطع الإمام الشك باليقين في تحديد نسبة الذين يرفضون إطلاق مثل هذه المصطلحات -من العلماء- على القرآن الكريم، فقال الإمام الزركشى «والأكثرون ينكرون إطلاق هذه العبارة في كتاب الله ويسمونه "التأكيد". ومنهم من يسميه بـ"الصلة"، ومنهم من يسميه "المقحم" قال ابن جني: كل حرف زيد في كلام العرب فهو قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى، وبابها الحروف والأفعال، كقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾.. -إلى أن قال-:

وأعلم أن "الزيادة واللغو" من عبارة البصريين، و"الصلة والحشو" من عبارة الكوفيين، قال سيبويه عقب قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾: إن "ما" لغو لأنها لم تحدث شيئا.
والأوْلى، اجتناب مثل هذه العبارة في كتاب الله تعالى([18])، فإن مراد النحويين بالزائد من جهة الإعراب لا من جهة المعنى، فإن قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ معناه:"ما لنت لهم إلا رحمة" وهذا قد جمع نفيا وإثباتا، ثم اختصر على هذه الإرادة وجمع فيه بين لفظي الإثبات وأداة النفي التي هي "ما"» ([19]).
 وذكر مفهوم هذا النص أيضا في كتابه البحر المحيط في أصول الفقه تحت عنوان: «لا زائدة في القرآن»([20]).
إذن هناك أربعة مواقف لعلمائنا الأجلاء في هذه القضية توصل الكاتب إلى ثلاثة منها فيما ذكره الزركشي في البرهان.والموقف الرابع استنبطه الكاتب من مصطلح الأصوليين في هذا الصدد حيث اصطلحوا وأطلقوا على حروف التأكيد بـ "المجاز بالزيادة" والحذف بـ"المجاز بالنقصان" كما ذكره الإمام الحرمين في الورقات ([21]).

الأول: فريق يرى عدم وجود الزيادة في كلام العرب عموما، أي يرون عدم وجودها في اللغة العربية عموما دون قيد أو شرط كابن الخشاب.

الثاني: فريق يرى عدم إطلاق مصطلح الزيادة خصوصا على كلام الله، لكن لم يصرحوا بموافقتهم بورودها من عدمه، وهم الأكثرون، وعلى رغم من أن هذه العبارة أخف على اللسان من مصطلح "اللغو"، إلا أنهم لم يتطرقوا إلى مصطلح الإمام سيبويه "اللغو"، ومما لاشك فيه أن هذا المصطلح أهجن المصطلحات على الإطلاق، لدي الجميع لكونه أشد تنافرا وأعظم إنكارا لمن له أدني الذوق في العربية، فإذا كان الأخف منكورا فالأغلظ من باب الأولى.

الثالث: فريق يرى عدم وقوعها أصلا في كتاب الله كأبي العباس المبرد (ت285هـ) وثعلب. فهم لا يرون أصلا وقوعها فضلا عن جواز إطلاقها من عدمه وهم حجة في النحو. إذن هناك فرق بين من يرى عدم إطلاق مصطلح الزيادة وبين من لا يؤمن بوقوعها أصلا، لا في اللغة العربية ولا في القرآن.

الرابع : فريق يرى التوفيق بين الرأيين، البلاغيين الذين يفضلون إطلاق مصطلح المجاز أو التوكيد على ما يقال إنه زائد في القرآن، وبين النحويين الذين يطلقون الزيادة عليه، فابتكر الأصوليون مصطلح "المجاز بالزيادة" كما عند إمام الحرمين، غير أن مفهوم المخالفة لهذا المصطلح جعل موقف الأصوليين ضعيفا، فقد أطلقوا أيضا "المجاز بالنقصان" يعنى بما يطلق عليه البلاغيون بالحذف .

فإن قلت: "لا مشاحة في الاصطلاح "، فالمهم أن يختار الإنسان ما يراه مناسبا، أقول: ليس الأمر كما تظن، ولكن لهذه القاعدة ضوابط في استعمالها، فليست على إطلاقها، بل هنالك شروط لابد من اعتبارها وتقييد القاعدة بها، وهي أربعة شروط:

1.     وجود مناسبة معتبرة تجمع بين الاصطلاح ومعناه، وإلا كان تخصيص أحد المعنيين بعينه بذلك اللفظ بعينه ليس أولى من العكس.
2.     ألا يكون في هذا الاصطلاح مخالفة للوضع اللغوي أو العرف العام.
3.     ألا يكون في هذا الاصطلاح مخالفة لشيء من أحكام الشريعة.
4.     ألا يترتب على هذا الاصطلاح الوقوع في مفسدة اختلاط المصطلحات .

فائدة: مقامات الزائد في اللغة العربية

 حق الزيادة أن تكون في الحرف وفي الأفعال كما سبق، وأما الأسماء فنص أكثر النحويين على أنها لا تزاد، ووقع في كلام كثير من المفسرين الحكم عليها في بعض المواضع بالزيادة، كقول الزمخشري في قوله تعالى:﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾: «إن اسم الجلالة مقحم ولا يتصور مخادعتهم لله تعالى» ([22]).

وأنا أعتقد أن الذي حمله على هذا التحليل هو فيحة اعتزالية بناءا على نزعته العقدية في "القبيح والحسن" -والله أعلم-، وإن كان غيره من المفسرين استخدموا هذا المصطلح أيضا دون انتباه منهم على أثر إطلاقه على القرآن الكريم.

وهذه المسألة نناقشها من ثلاث زوايا:

الأولى: في المصطلح. الثانية: في نوعية الزيادة. الثالثة: في لفظ الجلالة.

أما الأولي: فهذا المصطلح لا يليق إطلاقه على كتاب الله لفظا ودلالة؛ لأن الإقحام هو إدخال شيء في الآخر بالقوة كأن الحرف احتل المكان .

الثانية:أما نوعية الزيادة فقد ذهب أكثر علماء اللغة ومنهم ابن جني إلى عدم وقوع الزيادة فى الأسماء، فبابها في الأفعال والحروف، ولكن الإمام الزمخشري خالف ذلك.

الثالث: كون لفظ الجلالة مقحما في القرآن الكريم منظور فيه؛ لأن بلاغة القرآن غني عن مثل هذا التكلف، إذ ما من حرف في النظم القرآني إلا وله سره وبلاغته فضلا عن لفظ الجلالة من غير سبب ولا أرب. لكن هذا التحليل يفيح رائحة اعتزالية كما قلت من قبل، والله أعلم.

المسألة الرابعة: حروف الزوائد والذوق البلاغي

 إذا نظرنا إلى التحليل البلاغي والبلاغيين لهذا المصطلح "الزائد" فإنه انطلق من منظور الذوق. ومما يدل على الذوق البلاغي في هذا المقام أنه سئل بعض العلماء عن التوكيد بالحرف وما معناه، إذ إسقاط الحرف لا يخل بالمعنى؟ فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه بإسقاط الحرف، قال: ومثال ذلك مثال العارف بوزن الشعر طبعا، فإذا تغير البيت بزيادة أو نقص أنكره، وقال: أجد نفسي على خلاف ما أجده بإقامة الوزن، فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع عند نقصانها ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقضانه ([23]). وسنذكر أقوالَ ووجهةَ نظرِ البلاغيين ليتميز الذوق من الطمس ونبض معاني هذا الحرف من دفنها.

أرآء سلف علماء البلاغة

اتفق البلاغيون في كلمتهم أو كادت على أن الكلام البليغ يمتنع أو يندر أن يوجد فيه الزيادة المحضة التي يكون دخولها كخروجها، فإذا كان هذا واجبا في شروط الكلام البليغ فهو في القرآن أوجب، ولذلك نبهوا على أن القرآن لا يحتوي على شيء زائد، ونبهوا على أن النحويين إذا ذكروا الزيادة والحشو ونحو ذلك فإن مقصودهم بذلك ضبط قوانين الإعراب، وأن حذف هذه الحروف لا يخل بالإعراب ولا يخرج الكلام عن قوانين العربية، ويبقى بعد ذلك بيان الفروق الدقيقة بين معنى الكلام بالزيادة ومعناه بغيرها، وتلك وظيفة البلاغي.

ابن سنان الخفاجي (466هـ)

تعرض لهذه المسألة في (سر الفصاحة) فقال: «فأما زيادة "ما" في قول الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، فإن لها هنا تأثيرًا في حسن النظم وتمكينًا للكلام في النفس، وبعدًا به عن الألفاظ المبتذلة، فعلى هذا لا يكون حشوًا.

وأهل النحو يقولون: إن "ما" في هذا الموضع صلة مؤكدة للكلام، وقد يكون التوكيد عندهم بالتكرار كما يكون بالعلامة الموضوعة له، وإذا أفاد الكلام شيئاً فليس من الحشو المذموم؛ لأن حقيقة الحشو هو الذي يكون دخوله في الكلام وخروجه على سواء»([24]).

عبد القاهر الجرجاني (471 هـ)

تعرض لهذه المسألة في (أسرار البلاغة)، فقال: «...علمت منه أن الزيادة في هذه القضية كالحذف فلا يجوز أن يقال إن زيادة "ما" في نحو ﴿فبِمِا رَحْمَةٍ﴾ مجاز، أو أن جملة الكلام تصير مجازاً من أجل زيادته فيه، وذلك أن حقيقة الزيادة في الكلمة أن تعرى من معناها، وتذكر ولا فائدة لها سوى الصلة، ويكون سقوطها وثبوتها سواء...» ([25]).

ثم قال: «ووصف اللفظ "بالزيادة" يفيد ألّا يراد بها معنى وأن يجعل كأن لم يكن لها دلالة قط.
فإن قلت أو ليس يقال: إن الكلمة لا تعرى من فائدة ما ولا تصير لغواً على الإطلاق حتى قالوا: إن نحو "ما" في نحو ﴿فبما رحمة من الله﴾ تفيد التوكيد، فأنا أقول: إن كون "ما" تأكيدا نقل لها عن أصلها ومجاز فيها...» ([26]).

الزيادة في القرآن منكر عند البلاغيين.

ابن الأثير (637هـ)

تعرض له ابن الأثير في كتابه بعنوان: «القسم الثاني عشر الزيادة في الكلام لغير فائدة كقوله تعالى ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُم﴾ فـ"ما" ههنا زائدة لا معنى لها، أي: فبرحمة من الله لنت لهم. وهذا القول لا أراه صوابا وفيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن هذا القسم ليس من المجاز؛ لأن المجاز هو دلالة اللفظ على غير ما وضع له في أصل اللغة، وهذا غير موجود في الآية، وإنما هي دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة.

والوجه الآخر: أني لو سلمت أن ذلك من المجاز لأنكرت أن لفظة "ما" زائدة لا معنى لها، ولكنها وردت تفخيما لأمر النعمة التي لان بها رسول الله له، وهي محض الفصاحة، ولو عرى الكلام منها لما كانت له تلك الفخامة ... ولا يعرف ذلك إلا أهله من علماء الفصاحة والبلاغة .. ثم قال: ومن ذهب إلى أن في القرآن لفظا زائدا لا معنى له فإما أن يكون جاهلا بهذا القول، وإما أن يكون متسمحا في دينه واعتقاده» ([27]).

أراء خلف علماء البلاغة

مصطفى صادق الرافعي (ت: 1356 هـ )

وبعد أن بينا بعض ما ورد عند علمائنا السلف في هذه المسألة نأتي إلى أراء علماء الخلف، ومنهم الرافعي، فنجده يقول (في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية): «ولما كان الأصل في نظم القرآن أن تعتبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، أو ما يقال فيه إنه تغوث واستراحة كما تجد من كل ذلك في أساليب البلغاء، بل نزلت كلماته منازلها على ما استقرت عليه طبيعة البلاغة، وما قد يشبه أن يكون من هذا النحو الذي تمكنت به مفردات النظام الشمسي وارتبطت به سائر أجزاء المخلوقات صفة متقابلة بحيث لو نزعت كلمة منه أو أزيلت عن وجهها، ثم أدير لسان العرب كله على أحسن منها في تأليفها وموقعها وسدادها لم يتهيأ ذلك ولا اتسعت له اللغة بكلمة واحدة» ([28]).

كما أن الرافعي لم يكتف بالنظرية فحسب، إنما أردف نظريته بالتعليل والتحليل لا للاقتناع بل للإقناع. فيقول: «ثم الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفا، كقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾، وقوله:﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾، فإن النحاة يقولون: إن "ما" في الآية الأولى و"أن" في الثانية زائدتان، أي في الإعراب، فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونا من التصوير لو هو حذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإن المراد بالآية الأولى تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" وصفا لفظيا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها -وهو لفظ رحمة- مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.

والمراد بالثانية تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام، وأن ذلك كأنه كان منتظرا بقلق واضطراب تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره غنةُ هذه النون في الكلمة الفاصلة وهي "أن" في قوله: ﴿أنْ جاءَ﴾. وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجل القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره.. فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل البتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة، أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب. ولكنك واجد في الناس من ينقبض ذرعه ويقصر به علمه ولا يدع مع ذلك أن يقدم على الأمر لا يعرف من أين مُطَّلعه ومأتاه فيمضي القول على ما خيل، ويفتي بما اختال، ولا يمنعه تقصيره من أن يستطيل به ولا استطالته من أن يكابر عليها، ولا مكابرته من اللجاج فيها، فيخطئ صواب القول إن قال، ثم يخطئ الثانية في تصويب خطئه إن احتج، وما في الخطإ جهة ثالثة إلا أن يصر على الخطإ» ([29]).

والجديد الذي لم يُسبق إليه الرافعي -كما ذكرت د. هيفاء عثمان عباس- هو إضافته الرائدة لأثر الحرف الصوتي في إقامة المعنى، ومن ثم الحكم للحرف بالأصالة، فإن مثل هذا لا تلتقطه إلا أذن شديدة الإحساس بالصوت بالغة الدقة في استيعاب إشاراته وجرسه وأحواله([30]).

رأي د. عائشة بنت الشاطئ: ت:1427هـ

قالت البلاغية د.عائشة في كتابها تحت عنوان (فواتح السُّوَر وسِرُّ الحرف): «جرى النحاة والمفسرون على القول بأن هذه الباء زائدة في خبر "ما"، كما تأتي زائدة في خبر "ليس". فهي تعمل في لفظ الخبر، ويبقى الحكم الإعرابي على أصله منصوباً بفتحة مقدرة على أخر الخبر، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

وقد جاء "ابن هشام" بهذه الباء الزائدة في الخبر، مع خمسة مواضع أخرى لزيادة الباء، وأدرجها جميعاً تحت حكم عام هو: معنى التأكيد المستفاد من الباء الزائدة.

ومع تنبههم إلى أن من هذه المواضع ما تكون الزيادة فيه واجبة وغالبة وضرورة ، جرت الصنعة الإعرابية على قصر عملها على اللفظ دون المعنى» ([31]).

وسئل بعض العلماء عن التوكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاط الحرف لا يخل بالمعنى ؟ فقال: هذا يعرفه أهل الطباع إذ يجدون أنفسهم بوجود الحرف على معنى زائد لا يجدونه بإسقاط الحرف ([32]).

وهذا يذكرني بقول الأخضري في جوهره عن الفرق بين دور النحو والبلاغة علما بأنه نحوي وبلاغي بصير بما يوازن، فقد قال في أرجوزته عن البلاغة:
لأنه كالروح للإعراب ** وهْو لعلم النحو كاللباب ([33]).

الخاتمة

وفي النهاية رأى الكاتب أن تجاذب المصطلحات بين الأخذ والرفض والرد -مع كثرتها بين العلماء على مفهوم الزيادة- كان منقطع النظير، ومصدر هذه المصطلحات من بعض النحويين، ورفضه بعض الآخر كما اتضح، وتأثر غيرِهم بهم وإن كان واردا إلا أنه غير مبرر عند الوضوح. ولم يكتف بذلك فحسب، بل أوردوا مصطلحات متعددة غير مبررة، وهذا هو ما يمكن أن يسمى بمعركة المصطلح بين علماء البلاغة والنحاة والمفسرين، فحرف التوكيد يدور بين كونها "زائدة" أو "لغوا " كما عند البصريين، أو "صلة" أو "حشوا" كما عند الكوفيين، أو "توكيدا" كما عند بعض البلاغيين والمفسرين، أو "إقحاما"، كما عند سيبويه. والذى تطمئن إليه نفس الكاتب بين هذه المصطلحات كونه توكيدا، وهذا ما ناسب النظم القرآني تحقيقا لقداسته وتقريرا لمعجزته، وتجنبا لطعن المغرضين والملحدين فيه.

أما مصطلح "اللغو" فغير مقبول لفظا ومعني؛ لأنه غير لائق إذ يمجه اللسان قبل الآذان، قبيح في الكلام العادي بين الناس، فما بالكم في النظم القرآني، فلا يليق به مضمونا وشكلا، عرفا ونقلا، وأما مصطلح "الزيادة" فغير مقبول إطلاقه؛ لأنه وإن كان مقبولا لفظا ومعنى لكنه غير مانع إذ لم يتقيد بما يحرره، فلا يوجد زيادة فى البلاغة، فضلا عن النظم القرآني. وأما مصطلح "الحشو" فغير مانع، فلا يوجد إلا فى الشعر. وأما "الإقحام"، فهذا يأتي بعد اللغو في درجة الرفض والإنكار، غير مناسب بتاتا، فلا يعقل أن يطلق على كلام البشر كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا من كونه بشرا، فضلا عن كلام الله، وإلا فأين إعجازه، وبلاغته؟ فبقي مصطلح "توكيد" وهو أقصى ما يرتضيه الباحث من مصطلح النحويين.

ولكن السؤال هنا، لماذا أطلق الإمام سيبويه وبعض النحويين من بعده هذا المصطلح على كلام الله؟ ولماذا لم يختاروا مصطلحا مرادفا له كما اختاره غيرهم؟! وماذا يترتب على استعمال هذا المصطلح؟! ولا شك أن أعداء الله يتدربون على حسن صيد مثل هذا السهو كما يصيد الأسد الجواع فريسته، خاصة أنه مثل هذا السهو جاء من المسلمين أنفسهم بل من أحد أئمتهم الذي لايشك له غبار، ولا يدار له حوار في إمامته في اللغة؟! فربما ذلك يرجع إلى البعد التاريخي، إذ لم تنشأ خلافات عقائدية بعد، فسيبويه مات في سنة 180هـ. ولم يكثر إيثار الشبهات المغرضة تجاه القرآن الكريم والطعن فيه. والله أعلم.

ولقد أحسن علماء الذوق البلاغي في دفاعهم عن القرآن، فإن قلت: ذلك هو غرض علماء النحو أيضا فما الجديد؟ أقول: نعم، غير أن ذلك الجهد يقتصر على بعض أمور ظاهرية كإعراب الألفاظ ولم يتعد ذلك كما قال علمائنا، وأيضا قد أصيب هذا الجهد بالطمس والتستر على بعض مقاصد القرآن من خلال إطلاقهم مصطلحات لا تليق بعضها لفظا ومعنى بعظمة القرآن ومقامه وبلاغته. ولقد رصد الكاتب قرابة عشر مصطلحات في هذا الصدد، وهي: 1- الزيادة، 2- اللغو، 3- الإقحام، 4- المهمل، 5- الحشو، 6- الصلة، 7- التأكيد، 8- المجاز، 9-المجاز بالزيادة، ولا توجد مسألة كثرت مصطلحاتها الناشئة عن دلالاتها ومفهومها عند العلماء كهذه المسألة.

ولا يفوتنا أن نشير إلى بعض الفوائد والأسرار التي يذكرها علماء الذوق البلاغي للحروف الموسومة بالزيادة عند النحويين، فمنها:
1.                 التأكيد
2.                 تنصيص العموم
3.                 التقليل
4.                 الجرس الصوتي
5.                 إفادة الفصل الزمني
6.                 الفصاحة
7.                 تفخيم للشأن، كما قال الزمخشري وابن الأثير
8.                 جزالة النظم كما قال ابن الأثير
إلى غير ذلك من الفوائد التي تعرف من السياق والمقاصد .والله تعالى أعلم.
وأخيرا:
إن تجد لي عيبا فسد لي خلالا  **  جل من لا عيبا فيه وعلا.
"رحم الله امرءا أبدى لي عيوبي" كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه.
اللهم اجز عنا علماءنا ومشايخنا عن العلم وطلابه خير جزاء، آمين.


ثبت المراجع:
ü     ابن الأثير: ضياء الدين نصر الله بن محمد، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: المكتبة العصرية، 1995.
ü     ابن التمجيد: مصلح الدين .حاشية ابن التمجيد على تفسير البيضاوي، بيروت: دار الكتب العلمية،ط 1، 2001.
ü     بنت الشاطئ: عائشة بنت عبد الرحمن الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق، القاهرة: دار المعارف، دت.
ü     الجرجاني: عبد القاهر، أسرار البلاغة، القاهرة: مكتبة المدني بجدة، دت.
ü     الخفاجي: ابن سنان سر الفصاحة، تحقيق-عبد المتعالي الصعيدي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1982.
ü     الدمنهوري: حلية المصون شرح جوهر المكنون في صدف الثلاثة الفنون، القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، دت.
ü     الرافعي:مصطفى صادق، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، القاهرة: دار المعارف، دت.
ü     الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمدأبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار الحديث، 1957.
ü     الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق محمد محمد تامر، بيروت: دار الكتب العلمية، دت.
ü     الزكلي: خير الدين بن محمود الدمشقي، الأعلام، بيروت: دار العلم للملايين، ط 15، 2002.
ü     السيوطى: جلال الدين عبد الرحمن، حاشية على البيضاوى المسمى بنواهد الأبكار وشوارد الأفكار، رسالة علمية تحقيق ودراسة:أحمد حاج محمد عثمان –. إشراف أ.د أمين محمد عطية جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية كلية أصول الدين قسم القرآن والسنة.
ü     السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن، همع الهوامع شرح جمع الجوامع، تحقيق عبد الحميد هنداوى، القاهرة: المكتبة التوفيقية، دت.
ü     مجمع اللغة العربية، (أحمد الزيات حامد عبد القادر، إبراهيم مصطفى، محمد النجار) المعجم الوسيط، القاهرة: مجمع اللغة العربية، دار الدعوة، دت.
ü     فدا: هيفاء عثمان عباس، زيادة الحروف بين التأييد والمنع وأسرارها البلاغية في القرآن الكريم القاهرة: دار القاهرة، دت.




([1]) أعني بذلك العلماء العجم الذين خدموا العلوم اللغوية وغيرها من العلوم الإسلامية ورفعوا شأنها، فما أحوجنا إلى التشبه بهم .
([2]) كانت قضية الزيادة في الأساليب العربية قضية مسلمة عند أكثر العلماء، ولذا لا نتطرق لها، إنما الذي وقع فيه خلاف هو وقوع الزيادة في القرآن ومصطلحاتها المستخدمة .
([3]) هو أحمد بن ثعلب اللغوي النحوي معاصر المبرد، توفي ببغداد سنة 291هـ، من مؤلفاته معاني القرآن المصون في النحو. أنظر: الأعلام لخير الدين الزكلي، 1 / 256، بيروت.
([4]) هو ابن الخَبَّاز: أحمد بن الحسين، شمس الدِّين، أبو عبدالله، الإِرْبِلِي، ثم المَوْصِلي، من نُحاة المَوْصِل (ت: 637)، قال الذهبي في "التَّاريخ": (كان أستاذا بارعا في النَّحو ...). قلت: له: "النِّهاية في النَّحـو وذكر السيوطي في "بغية الوعاة" 1 / 304 ترجمة رقم: (560).
([5]) بدر الدين الزكشي، البرهان فى علوم القرآن، تحقيق أبي الفضل إبراهيم (القاهرة، دار الحديث، ط1، 1975)، 3 / 73
([6]) سورة آل عمران: 159
([7]) سورة البقرة: 26
([8]) سورة الشورى: 11
([9]) المصدر السابق: نفس الصفحة.
([10]) العكس هو مطرد في القياس وشاذ في الاستعمال أو شاذ فيهما معا. راجع الخصائص لابن جني للاطلاع على الحقائق.
([11]) مجمع اللغة العربية: إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار، المعجم الوسيط، (القاهرة: دار الدعوة، دت) باب القاف –حرف الميم 2 / 717ـ
([12]) الحافظ جلال الدين السيوطي، همع الهوامع شرح جمع الجوامع، تحقيق عبد الحميد هنداوي (القاهرة: المكتبة التوفيقية) في باب أسماء لازمت النداء 2 / 58
([13]) هو شيخنا الأستاذ الدكتور إبراهيم الخولى، والكتاب بعنوان: التكرار بلاغة.
([14]) مصلح الدين بن التمجيد، حاشية ابن التمجيد على تفسير البيضاوي، (بيروت: دار الكتب العلمية،2001) 3 / 21، جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، حاشية على البيضاوي المسمى بـ نواهد الأبكار وشوارد الأفكار، رسالة علمية تحقيق ودراسة: أحمد حاج محمد عثمان، إشراف أ.د. أمين محمد عطية، (جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية كلية أصول الدين قسم القرآن والسنة) 2 / 151
([15]) الشيخ عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة ، ت محمود شاكر، ( جدة: دار المدني بجدة، دت) ص 419
([16]) سورة البقرة: 26.
([17]) مصلح الدين بن التمجيد، حاشية ابن التمجيد على تفسير البيضاوي 3 / 21
([18]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 3 / 73.
([19]) وقوله: ﴿ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً﴾ قيل: "كان" هاهنا زائدة، وإلا لم يكن فيه إعجاز لأن الرجال كلهم كانوا في المهد، وانتصب "صبيا" على الحال. الزركشي، البرهان 2 / 665، والجنى الداني في حروف المعاني لابن أُمّ قَاسِم المرادي، (الأردن: طبعة المشكاة، دت)، 1 / 29.
([20]) بدر الدين الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق، د. محمد محمد تامر، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 1 / 371
([21]) جلال الدين المحلي، شرح المحلي على الورقات، (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، الحلبي) ص 8
([22]) الزركشي، البرهان 1 / 73
([23]) الزركشي: البرهان، 3 / 73
([24]) ابن سنان الخفاجي: سر الفصاحة، تحقيق عبد المتعال الصعيدي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1982) ص  156 – 157
([25])  الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 419
([26])  المصدر السابق ، ص 419
([27])  ابن الأثير: المثل السائر، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، (بيروت: المطبعة العصرية،1995) 1 / 358
([28])  مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، (القاهرة: دار المعارف). ص 224
([29])  المصدر السابق: ص 231 - 232
([30])  هيفاء عثمان، زيادة الحروف بين التأييد والمنع وأسرارها البلاغية في القرآن الكريم (: دار القاهرة، 2000) ص 352
([31])  بنت الشاطئ، الإعجاز البياني ومسائل ابن الأرزق، (القاهرة: دار المعارف، دت) ص 181
([32])  بدر الدين الزركشي، البرهان، 3 / 73
([33])  أحمد الدمنهوري، حلية المصون شرح جوهر المكنون في صدف الثلاثة الفنون، (القاهرة، مطبعة البابي الحلبي دت) ص 10

No comments:

Post a Comment